نداءات


رم - بقلم ياسر توفيق العتوم


نداءات للصباح الباكر، نداءات تأتي من بعيد؛ هكذا كانت تبدو لي صباحات الطفولة، يستيقظ الصباح قبل الجميع ليأذن بتلاشي سكون ليلٍ كان لتوّه يطوي سجّل الحالمين، كنت حينها أتخيل زقزقات عصفور نشيط، كان أول مَن سعى لرزقه، كان يدعو بقية العصافير من أجل أن تصطف بانتظام، لتتلوا صلوات الشكر بعد أن يطعمها الذي تكفّل برزقها، إيذان ببدأ دورة حياة تعجّ بالأمنيات المؤجلة، كانت الشمس حينها على موعد متجدّد مع حياة؛ يرجى منها بأن تنفضَ ما تراكم مِن كدٍّ وتعب.. فكان الرزق ينتظر مَن يسعى إليه.

قالوا في الأثر: إن الأرزاق تُوزّع عند الفجر.. وقد حان وقت الكدّ، في هذه الأثناء كان دعاء أبي يسابق في السعي خلف رزقه، فراحَ يتلو بصوت ملؤه اليقين الممتد نحو السماء: "يا صبّاح يا عليم، يا رزّاق يا كريم، سبحان مَن قسّم الأرزاق ولا ينسى من فضله أحد". بعد سويعات قليلات يبدأ سير الطامحين نحو الحياة.. صباح الخير أبا خالد، صباح الخير يا أحمد، نداء آخر يأتي من أعالي الروح ليتلوَ ما تيسّر من كتاب الله بنغمةٍ ملائكية تفوقت على كل ما سبق من أصوات، إنه المقرئ الشيخ عبد الباسط محمد عبد الصمد، يتلو بصوته الشجيّ آيات عطرة: "إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ (1) وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ (2) وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ (3)". كان ذلك الصوت يأتي كل صباح من مطعم الفوّال، إنه العم أحمد، ذلك الرجل الطيب، صاحب الوجه البشوش، كان هو مَن أطلق عليَّ اسم (أبولو ١٤)، كان الفوّال يسكن منطقة بعيدة، وكان لزامًا عليه أن يسعى لرزقه في وقت مبكر، كنتُ أشاهده وهو يتهادى قادمًا مِن رأس الشارع، الذي كنت أسكن أوسطه، كان يحمل جرّة الفول في يد، وفي الأخرى يقبض على عكاز خشبي يعينه على المسير.. داخل مطعمه؛ برواز قديم ذهبيّ اللون، باهت بعض الشيء، رذاذ الزيت المتراكم على زجاجه؛ حجب ما هو مكتوب فيه على الرغم من خطّه الكبير، البرواز مكسور من أحد أطرافه، ومعلّق في منتصف واجهة المحل، منتفخٌ قليلا، ربما كان يريد أن يلفت انتباه الزوار إلى أمر ما ؟ عدد الكلمات داخل البرواز قليلة، وعلى الرغم من قلتها إلّا أنها كان لها دور في طريقة التهجئة التي كنت بالكاد بدأتها، فكنت أنطقها بشكل متقطع يصاحبه تأتأة خجولة، من هنا بدأت الطريق إلى عالم القراءة، ومن ذات المكان تم توطيد علاقتي مع صحن الفول الشهي من يد العم أحمد، الذي كان يصنع الفول في بيته.. كان لأبي دكان صغيرة، تحتوي على بضائع بسيطة، وكان لدية دفتر كبير يحافظ عليه أكثر من البضاعة نفسها، مكتوب عليه (دفتر الدين)، كان أبي ذو سمعة طيبة، يحبّه أهل الحيّ، هو رجل ضحوك، يجمع الحسنات من الجميع بفعل الابتسامة، وكان اهل الحي يلجئون إليه في كثير من الأمور وخاصة صباح يوم الجمعة، كان ليوم الجمعة طقوس مختلفة عن بقية الأيام، ويمكن أن يطلق عليه (يوم النحر!) ساحة دكانه أبي شاهدة على رقصة الدجاج بعد أن يُسمّى عليها.. الله اكبر، كان أبي هو من يحمل السكين، وكانت الرسائل تصل إلى يد أبي قبل أن يشمّها أصحابها.. ساعي البريد ذو البشرة السمراء يعتمد على أبي في توزيع مظاريف البريد، لأنه يعرف الجميع، ربما كان أبي أول من اعتمد فكرة التوصيل المجاني إلى البيوت "ديلفاري"، كنت أجمع بمعيّة أخي (قزايز) البيبسي من بيوت أهل الحيّ لغايات استبدالها عندما يأتي الموزع، أبي لم يكن يأخذ (رهنيّة) لذلك كنا مرغمين بأن نجمعها من أيدي شاربيها، وهذا الأمر جعلنا نطرق جميع أبواب البيوت لندخلها أحيانا من أجل جَمْع (القزايز)، كانت بيوت الحي متساوية في طبقتها الاجتماعية، ولكن ذلك لم يمنع من وجود النفوس (المحمضه)، من أجل ذلك كنت أحاذر الذهاب إلى من لا يستقبلني بحفاوة الضيف العزيز، وأصبحت انتقي البيوت بعناية، أحد هذه البيوت وأحبّها إليّ كان يعود لسيدة عجوز تعيش مع زوجها، كانت تدعوني لشرب (اللموناضه)، هكذا كانت تسمّيها، وكانت تعطيني (ملبّس على لوز) وأحيانا (ملبّس على قضامه)، وهذه الأصناف لم أعهدها في دكان أبي، غير أن (القضامه) العادية كانت متوفرة بكثرة داخل (مطربان) زجاجي، لكنها عارية من الألوان، كما أنها عارية من المذاق الحلو، كنت أثناء جمع (القزايز) الفارغة أشاهد أشكالًا كثيرة من البراويز داخل تلك البيوت، كانت في أغلبها آيات قرآنية، وكنت أعتقد بأن القول المأثور آية مثل بقية الآيات، لأنها كانت تُكتب بنفس الطريقة، وبنفس الخطّ، فكان للقول المأثور نصيب كبير في البيوت، وكانت تلك العبارة مصدرًا للتأمل والسؤال (الصبر مفتاح الفرج) ويمكن القول بأن لتلك العبارة ارتباط بأوجاع وهموم يخفيها باب مغلق، ومفتاح محاصر بين جملتي لوحة لا زالت معلقة بيد الأقدار.



عدد المشاهدات : (3161)

تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لن ينشر أي تعليق يتضمن اسماء اية شخصية او يتناول اثارة للنعرات الطائفية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار وكالة رم للأنباء - أخبار عاجلة، آخر الأخبار، صور وفيدوهات للحدث. علما ان التعليقات تعبر عن راي اصحابها فقط.
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :