المهندس عادل بصبوص
لم يكن في عصر ذلك النهار ما يُنْبِئُ عن شيء غير عادي ... ما عدا أنه اليوم الأخير في الشهر الأخير من عام 2000 ... وأنه اليوم الأخير أيضاً في عطلة عيد الفطر السعيد ... كنت في البيت مشغولاً ببعض شؤوني عندما رن جرس التلفون ... ليسارع أحد الصغار برفع السماعة والرد على المكالمة ... بابا جدتي تريدك أن تذهب إليها حالاً ... أبلغني الصغير على الفور ... قَدَّرتُ أن الأمر عادي ويحتمل الانتظار ربع ساعة أو نحوها ريثما أنتهي مما كنت قد شَغلتُ نفسي فيه .... لم تمضي عشر دقائق حتى فوجئت بكبرى بنات أخي تدخل لاهثة يتملكها الخوف والفزع .... عَمّو تعال شوف جدو شو مالو .... مالو جدو سألت وقد أصابني الفزع أيضاً .... مش عارفه شو صارلو وشَرَعَتْ بالبكاء ....
هرعت على الفور إلى منزل العائلة وخلال بضع دقائق كنت أدخل غرفة والِدَيَّ .... أمي تجلس على سريرها مذعورة تبكي .... ووالدي يجلس القرفصاء في زاوية الغرفة ... يتنفس بصعوبة وبحشرجة مرتفعة الصوت ... لا يقدر على الكلام .... تحدثت إليه ... لم يجب ... حدَّقَ في قليلاً .... كمن يطلب العون ويستغيث .... ثم أطرق رأسه للأسفل ....
لم أواجه صعوبة كبيرة في نقله إلى السيارة ... فقد كان يستطيع المشي على قدميه .... انطلقْتُ بالسيارة مسرعاً قاصداً مستشفى البشير وهو الأقرب إلى منطقتنا ... دخلنا قسم الطوارئ ... مشى بضع خطوات بصعوبة قبل أن يُحضِروا له كرسياً متحركاً ... لنصل إلى غرفة الفحص ويسارع إلى معاينته الطبيب المناوب .... لم أعد أذكر ما قاله الطبيب في ذلك الحين ... ما أذكره أن جهازاً يدوياً للتنفس ينتهي بِكُرَةٍ مطاطية قد تم إحضاره .... كان يجب إدخال خرطوم الجهاز في جوف والدي .... إجراء يسبب الضيق والألم الشديد ... حاول والدي أن يَحولَ دون ذلك ...أمسكت يَدَيْهِ الاثنتين وبصعوبة شديدة استطعت منعهما من الحركة ... فما زال لدى والدي بقية من بنية قوية وهو في أواسط العقد التاسع من عمره ...
بدأ الطبيب بالضغط على الكرة المطاطية لضخ الهواء إلى الرئتين ... وطلب منا مغادرة الغرفة حتى يستطيع القيام بعمله .... مكثتُ خارج الغرفة بعض الوقت ثم دخلتُ لأطمئن على والدي .... وسرعان ما تم إخراجي ثانية قبل أن أقترب من السرير الذي تَحَلَّقَ حوله العديد من ذوي الأرواب البيضاء .... انتظرت قليلاً ... ازداد خوفي وقلقي عليه حاولت الدخول مجدداً ... ليواجهني الطبيب قائلاً ... الله يرحمه البقية في حياتكم ....
لم أحتمل الخبر شعرت بأن الأرض تميد بي فسقطت حيث كنت أقف مذهولاً من الصدمة ... في الوقت الذي بدأ يتناهي إلى سمعي نحيب إخوتي الذين كانوا قد وصلوا للتو الى المكان ...
نعم لقد مات أبي ... مات هنا بعيداً عن "الدوايمه" مسقط رأسه وملعب شبابه وصباه ... مات بعيداً عن جرون القمح وحقول الزيتون وكروم التين والعنب .... مات وكله شوق وحنين للحارة "الفوقا" والحارة "التحتا" و"حَرْجَة السماعين" و"حوش البصابيص" ولكل الطرقات والساحات والبيوت التي أحب ... كما مات دون أن تغيب عن باله "دورا" التي التجأ إليها كي يظل على مرمى حجر من بلدته الحبيبة ... يُكَحِّلُ عينيه بمرآها من هناك كلما هزه الشوق إليها ... ويستنشق هوائها كلما هبت رياح آتية من الغرب ....
مات من قضى جل عمره ومعظم سنينه يكد ويكدح ليوفر لنا حياة كريمة ... يغادر الحياة بهدوء .... هذه الحياة التي قست عليه فترة طويلة قبل أن تهادنه في الهزيع الأخير من العمر ... فينعم بشيء من الراحة وهدوء البال .... كان والدي متديناً بالفطرة ... شديد الإيمان بالله ... يحفظ من القرآن اثنتين أو ثلاثاً من قصار السور إضافة إلى الفاتحة وبعض الأدعية المأثورة ... لم أسمعه يوماً يذكر انساناً بسوء .... ولا أعرف له أعداءً أو خصوم ... ولا أعتقد أنه وعلى مدى سنوات عمره الطويل قد ألحق الأذى أو السوء بأي كان .... لم تشتكي منه يوماً أي من كنائنه الست ... وقد عِشْنَ معه سنوات طوال تباعاً ضمن بيت واحد ...
برغم حدة المزاج التي كان يتصف بها ... إلا إن روحه كانت روح طفل بريء ... إن فَرِحَ ينسابُ الفرحُ من أعماق قلبه ... وإن غضب فمن يستطيع احتمال غضبه .... كانت سعادته تفوق الوصف يوم توجهه لأداء العمرة للمرة الأولى... فَرَحٌ تكرر في عُمرَتِهِ الثانية ويوم اصطحب أمي لأداء فريضة الحج أيضاً .... ما زلت أذكر فرحته الغامرة يوم زفافي ... عندما اقتحم حفلة العرس بكل عفوية وبراءة لينضم إلى من يرقصن في الوسط وكُلُهُنَ من المحارم والمُقَرَّبات .... فيتمايل ويرقص شابكاً يديه بأيديهن ...
كان والدي زاهداً بالكثير من متع الدنيا ... ولكنه كان مدخناً شرهاً ... كان يستعمل الدخان العربي أو ما كان يعرف "بالهيشي" كان يجلب أوراق التبغ الجافة فيفركها فوق غربال ليُحَضِّرَ منها التبغ الذي يدخنه .... كان يضعه في علبة معدنية صغيرة تحتوي أيضاً أوراق "الأوتومان" الرقيقة التي يلف التبغ فيها ... ليستغني لاحقاً عن العلبة المعدنية ويستبدلها بكيس الدخان القماشي الذي فَصَّلَهُ ذات مرة عند خياط ...
بقي الدخان رفيقه الذي لا يغيب ما يزيد على نصف قرن من الزمان ... لم يتركه إلا عندما إصابته جلطة في الدماغ قبل نحو خمس سنين .... يومها دخل مستشفى الجامعة الأردنية ... ليضبطه الطبيب المناوب يلف سيجارة ليدخنها ... فيبادره قائلاً حجي هذا الدخان هو اللي سَبَّبْلَكْ الجلطة وكان ممكن يصير معك شلل دائم ... سَكَتَ والدي ولم يُحِرْ جواباً .... حَدَّقَ في السيجارة التي لم تكتمل ... أعادها إلى كيس الدخان ... أحكم اغلاقه .... تأمله للمرة الأخيرة .... ثم ألقاه في سلة المهملات ... ولم يرجع له بعد ذلك أبداً ....
عاش والدي سنين طويلة من عمره وحيداً بعد أن رحل فجأة أخوه وسنده في هذه الحياة .... كما عاش والدهُ -جدي- من قَبْلِهِ وحيداً كذلك .... فوالدي هو الابن المتبقي لعائلة بأسرها .... كانت له اختين اثنتين أكبر منه سناً رحلتا قبله بسنوات طويلة ... كان شديد الحنان على بنات شقيقتيه وكن يبادلنه الحب والحنان ... طاف عليهن مُعايداً في هذا العيد قبل ثلاثة أيام من وفاته وعندما وصل في نهاية جولته عند "رسمية أم يوسف" أكبرهن سناً قال وهو يهم بمغادرتها وهو بكامل صحته وعافيته "ديري بالك على حالك يا خال" .... ثم أضاف "هذه آخر مرة بشوفك فيها .... اللَقا ليوم اللَقا" .... هل كُشِفَ الغطاءُ عن عينيه فأدرك في تلك اللحظة أن الرحيل قد اقترب وأن بقاءه في هذه الدنيا لن يطول أكثر من بضعة أيام ...
كانت وفاة والدي كابوساً هزَّني من الأعماق .... شعرت بحزن لا يوصف ... حاولت البكاء فلم أفلح ... وبقيت مكتئباً وحزيناً بعد ذلك فترة طويلة ... رَفَضْتُ أن أراه بعدما أعلن الأطباء وفاته ... كما رفضْتُ وداعه قبل الدفن .... حتى لا أراه ميتاً ... وحتى لا تَعْلَقَ صورته تلك بذهني ما حييت ...
نم قرير العين يا والدي .... فزرعك الذي غرست قد أزهر وأينع ... وها هم أبناؤك وأحفادك يسيرون على خطاك ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً ... ويتطلعون إلى العودة إلى "الدوايمه" التي شهدت مولدك وأيام صباك وشبابك الأولى ... ليحققوا حلمك الذي كنت تتوق إلى تحقيقه قبل مغادرة هذه الدنيا الفانية.... يرحمك الله ....
لن ينشر أي تعليق يتضمن اسماء اية شخصية او يتناول اثارة للنعرات الطائفية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار وكالة رم للأنباء - أخبار عاجلة، آخر الأخبار، صور وفيدوهات للحدث. علما ان التعليقات تعبر عن راي اصحابها فقط.
|
|
الاسم : | |
البريد الالكتروني : | |
التعليق : | |