رم - المهندس عادل بصبوص
رَحَلتْ أمي ... فيما بقيت انجازاتها حاضرة ملء السمع والبصر ... استطاعت في زمن الفقر والعوز أن تصنع من القِلَّة وَفْرَةً ومن المستحيل ممكناً ... فكانت النتيجة نجاح باهر قَطَفَ ثماره اليانعة أبناؤها الستة وبنتها الوحيدة ... كان لكل منهم مع أمه قصة وحكاية بدأت بالجَد والمثابرة وانتهت بالتفوق والنجاح ... ولعل أروع القصص وأجمل الحكايات هي ما استطاعت نَسْجَهُ بحنكتها وصبرها مع ابنها ياسر ....
ياسر هو رابع إخوته من حيث الترتيب .... وقد شاءت له الأقدار أن يصاب بشلل الأطفال في الأشهر الأولى من حياته ... لم يُتِحْ فقر العائلة وغياب الوعي وتدني مستوى الخدمات الصحية في أوائل الستينات من القرن الماضي معالجة ذاك الطفل الصغير الذي وجد نفسه عاجزاً عن المشي فيما أقرانه يطوون المسافات ركضاً ولعباً ... كان ما زال في الثالثة من عمره عندما احتضنته لأشهر طويلة إحدى الجمعيات الأجنبية العاملة في مدينة القدس بهدف التدريب والتأهيل ... ليعود بعدها إلى الأسرة بملابس جميلة وأنيقة ... وقد تغيرت لهجته وطباعه .... حدق في وجوهنا ملياً ولم يعرف أو يتذكر أي منها ... ابتسم فقط عندما لمح وجه أمي ومَيَّزَهُ من بين الوجوه ....
مرت الأيام ودخل ياسر المدرسة مثل كل أقرانه ... كان يروح ويجيء باستعمال عكازتين خشبيتين وبوت طبي خاص بمثل هذه الحالات .... فقد كانت ساقه اليمنى تعاني من ضمور وشلل تام فيما كانت اليسرى تعاني من ضعف وشلل جزئي ...
لم تَتوقف والدتي عن محاولة البحث عن علاج أو تأهيل يُحَسِّنُ من امكانيات المشي لديه ويساعده على التخلص من العكازتين إحداهما أو كلتاهما لكن محاولاتها لم تحقق أي نجاح يذكر ...
حرصت أمي ومنذ بلغ ياسر سن الفهم والإدراك أن تغرس في عقله ووجدانه أنه ليس أقل من أقرانه في أي شيء ... فهم يمشون ويتحركون بأرجلهم الطبيعية وهو يمشي ويتحرك بعكازتيه ... مما أوجد لديه شعوراً بالمساوة التامة والتكافؤ مع الآخرين .... كانت البداية في المنزل ... فلم تكن تسمح لأي من إخوته بالتنمر عليه لا بالقول ولا بالفعل ... وكانت تدير المشهد وتوزع الأدوار بما يؤكد هذا التوجه ويعمقه لدى الجميع ...
أحب ياسر المدرسة وتفوق فيها مما أكسبه ثقة عالية بنفسه ... ثقة مارسها في كل الساحات والميادين ... حتى عندما كنا نلعب الكرة في المنزل في الصالة الواسعة بين الغرف كان يتولى دور حارس المرمى بكل مهارة وهو جالس على الأرض ...
أنهى ياسر المرحلة الثانوية واجتاز امتحان التوجيهي بعلامة جيدة جداً ... كان حلمه دراسة اللغة الإنجليزية ... تم قبوله في كلية الآداب في الجامعة الأردنية واستطاع تحقيق شروط التخصص المطلوبة كما استطاع الحصول على منحة كاملة من وزارة التربية والتعليم ... فكان الوحيد من بين إخوته الذي لم يكلف العائلة شيئاً في تعليمه الجامعي ...
لم تكن عملية ذهابه إلى الجامعة وعودته منها سهلة على الإطلاق ... كان عليه أن ينزل بعكازتيه الاثنتين وحذائه الطبي الثقيل درجاً تتجاوز درجاته 130 درجة ... للانتقال من المنزل في سفح حي نزال إلى شارع رأس العين ... يركب الباص إلى سقف السيل في وسط البلد ثم يمشي إلى شارع الشابسوغ فيستقل باص الجامعة ... وبعد انتهاء الدوام يَمرُ بالمحطات ذاتها في طريق العودة من الجامعة إلى البيت ...
أنهى ياسر سنوات الدراسة الجامعية بنجاح وحصل على بكالوريوس اللغة الإنجليزية ... وتقدم للتوظيف في وزارة التربية والتعليم ... كان عليه أن يجتاز الفحص الطبي المقرر ... خطوة كان يتوجس خيفةً منها ... كان يخشى أن يتم رفض تعيينه بسبب وضعه الصحي ..
قَصَدَ العيادات الخارجية التابعة لوزارة الصحة في العبدلي ... كان يقدم رِجْلاً ويؤخر أخرى ... لحظات حاسمة سوف تقرر مستقبله الوظيفي ... دخل عيادة الطبيب المختص وهو يكاد يرتجف من الخوف .... سَلَّمَ الطبيبَ كتاب التحويل المرسل من وزارة التربية ... تناول الطبيب الكتاب ألقى عليه نظرة عجلى ... انتقل بنظره إلى الشاب الواقف أمامه والمرتكز على عكازتيه .... تأمله بعناية ... طلب منه أن يجلس على الكرسي المجاور وأن يخلع حذائه الطبي ... تأمل الرِجْلَ القصيرة الضامرة ... وتحسس بيده الرِجْلَ الضعيفة الأخرى ... وسأله أتريد أن تعمل معلماً ... هز ياسر رأسه موافقاً ... إلا تعلم بأن ذلك يتطلب الوقوف مطولاً والحركة المستمرة أمام الطلاب ... أعلم ذلك تماماً وأنا قادر على القيام به قالها ياسر بصوت خفيض وهو يحاول أن يداري مشاعر الخوف وحالة الارتباك والاضطراب التي سيطرت عليه ....
جلس الطبيب على مكتبه صامتاً ... أعاد التحديق مرة ثانية في الشاب الجالس أمامه وهو يعيد ارتداء حذائه الطبي الثقيل .... وانتظر حتى فرغ من ذلك ثم خاطبه قائلاً .... استناداً للمعايير والأسس المعتمدة فأنت غير لائق صحياً للوظيفة المتقدم لها .... وقعت هذه الكلمات وقع الصاعقة على أذني ياسر .... وكاد ينهار ويسقط من على الكرسي الجالس عليه .... ولكنه تمالك نفسه وقرر الثبات أمام الطبيب مهما كانت النتيجة .... وسرعان ما استأنف الطبيب كلامه قائلاً ... إلا أن قناعتي بأن من استطاع أن يجتاز مراحل الدراسة كلها ويصل إلى هذه المرحلة وتحدى كل الصعاب طالباً في المدرسة وفي الجامعة كذلك ... لقادر أيضاً على تحقيق متطلبات عمله معلماً ... على مسؤوليتي الشخصية أقرر أنت لائق .. مبروك ....
تم تعيين ياسر معلماً للغة الإنجليزية ... وقد ابتسم له الحظ فتم تحديد مكان عمله في مدرسة حي نزال النموذجية القريبة من المنزل والتي عرفته طالباً نجيباً قبل أربع سنوات ... كانت البداية فترة عصيبة عليه ... حيث تم تعيينه مدرساً للصفوف الثانوية .... كان عليه أن يبدأ مسيرته المهنية بالمحاربة على عدة جبهات ... فيجب أن يثبت قدرة مهنية عالية في التمكن من اللغة التي درسها وأحبها وهذه لم تكن بالأمر الصعب أو المتعذر ... وكان عليه أيضاً أن يبدع في ايصال المعلومات إلى الطلبة ... وقبل هذا وذاك كان عليه أن يبسط سيطرته ويفرض شخصيته على الطلبة وجلهم تجاوز الخامسة عشرة من عمره وفيهم المشاكسون ومن اعتادوا على المشاغبة وتحدي المعلمين ومحاولة الإساءة اليهم ... لم يواجه الكثير من المصاعب في تنفيذ مهامه كمعلم محترف ... بل أجاد في ذلك وتفوق ... أما أمور الضبط والربط خلال الحصص فقد شكلت له تحدياً حقيقياً .... استعان بعصاة طويلة كما كان يفعل جلُ المعلمين ولم يكن يتردد في ضرب من كان يتجاوز الحدود في التصرف أو الانضباط ... كانت مغامرة خطرة بالنسبة له ... فلو قام أي من الطلبة ممن تعرضوا للعقاب بدفعه لسقط من فوره على الأرض وتحطمت صورته وضاعت هيبته ليس في الصف فقط وإنما في المدرسة كلها ... لقد ساهمت إجادته لمهامه كمعلم في مادة مهمة كاللغة الإنجليزية في فرض احترامه على الجميع طلبة ومعلمين ...
كان يتحرك داخل الصفوف وخارجها وفي التنقل بين الطوابق بحذر شديد خشية أن تنزلق احدى العكازتين أو كلاهما فيفقد توازنه ويسقط على الأرض ... وقد حقق نجاحاً كبيراً في ذلك ... باستثناء مرات قليلة سببت له الكثير من الحرج والارتباك .... كان يحاول فيها تجاهل أي ألم أو وجع يصيبه نتيجة السقوط بابتسامة عريضة يرسمها على شفاهه والقيام بأي حركة أو تعليق ليصرف أنظار من يكون بقربه وقت السقوط ... ثم يجمع شتات نفسه ويعاود النهوض من جديد ...
كان يرفض أن يعامل كحالة انسانية تستدر العطف أو الشفقة وكان حريصاً أن لا يظهر بمظهر الضعيف أو المحتاج إلى العون والمساعدة وقد نجح في ذلك إلى حد كبير ... فقد وجد فيه الزملاء شاباً مجداً طموحاً تَفَوَّقَ عليهم في الأداء والحضور ووجد فيه الطلاب معلماً حبب إليهم اللغة الإنجليزية وساعدهم على فهمها ودراستها .... وهو ما دفع العديدين منهم للاستزادة منه من خلال طلب اعطائهم دروس خصوصية فيها ... مما فتح له مجالاً واسعاً للعمل الإضافي بدأه في غرفة من غرف المنزل .... ثم في مركز ثقافي متخصص لأحد الزملاء وبعدها في مركز ثقافي خاص به ...
تحسنت أوضاع ياسر المادية فاشترى سيارة مستفيداً من الإعفاء الجمركي الذي يتمتع به من هم في مثل وضعه وحالته بعد أن أجرى التعديلات اللازمة عليها بحيث يتم التحكم فيها بالكامل من خلال اليدين ...
تزوج ياسر وأنجب بنيناً وبناتاً ... وترك منزل العائلة بعد أن بنى منزله الخاص ... أصبح وقته مشغولاً بالكامل إلا أن ذلك لم يمنعه من اتخاذ خطوة هامة وجوهرية على طريق تطوير امكانياته وقدراته الفنية ... فقد سجل في برنامج الماجستير في اللغة الانجليزية في الجامعة الأردنية متفوقاً بذلك على إخوته والكثير من زملائه واستطاع الحصول على درجة الماجستير بنجاح على الرغم من ظروفه الصحية وانشغاله بعمله وأسرته ...
تنقل بين كثير من مدارس العاصمة ... وانتهى به المطاف مدرساً في كلية الحسين ... بعدها تقدم لمسابقة أعلنت عنها وزارة التربية والتعليم لاختيار مشرفين تربويين في مجال اللغة الإنجليزية ... ليجتاز كل الامتحانات والمتطلبات بنجاح ... وليصبح مفتشاً تربوياً في مديرية تربية محافظة العاصمة ... ليعمل في هذا المجال بضع سنوات وليطلب بعدها احالته على التقاعد للتفرغ لإدارة مركزه الثقافي ... ليصبح بعدها واحداً من أكثر الأشخاص المعروفين في المنطقة فمن لم يتتلمذ على يديه في مدرسة حي نزال ... عرفه من خلال الدروس التي كان يعطيها في مركزه الثقافي ...
كان ياسر الأقرب لي منذ نعومة اظفاره ... علاقة خاصة كانت تربطني به منذ الصغر ... منذ كنت أحمله على ظهري في أوائل السبعينات من القرن الماضي في وادي السير لنشاهد سوياً برامج التلفزيون في دار خالتي زهره ... كنت أنزل به درجاً تزيد درجاته عن السبعين ... أقطع الشارع الرئيسي ثم أهبط درجاً آخر بثلاثين درجة وهو على ظهري ... ثم أحمله بعد انتهاء السهرة صاعداً الدَرَجَيْنِ في طريق العودة إلى البيت ...
استمرت العلاقة قوية حميمة بعد أن تقاعد كلانا ... أَقصدُ بيته كلما سنحت الفرصة لنتسامر ونلعب الشدة سوياً ولأفوز عليه معظم الأوقات دون أن يُفيدُهُ دعم زوجته وتشجيع أولاده ...
في المرة الأخيرة التي زرته فيها ... كنا منهمكَيْنِ في لعب الشدة ... كل منا يحدق في "كروت" الشدة التي كان يمسكها ... دهشت عندما رأيته يضع أوراقه فجأة ويقْلِبُها على الطاولة .... ويخاطبني وقد تصنع جَدِّيَةً لا يتقنها قائلاً ... بتعرف إنو أنا حاقد عليك .... ليش خير أجبته مستغرباً ... رد بقوله انت ضَيَّعِتْ مستقبلي ... أجبته ضاحكاً أنا ؟؟؟ قول وغَيِّرْ يا رجل ...
قال وهو ما زال يتقمص دور المتجهم الجاد ... بتذَكَّرْ لما كنت أنا في الصف الثاني الإعدادي وكتبت قصيدة "أبجدية الرصاص الفلسطيني" واعطيتك تشوف لي اياها قمت ضحكت ومزعت الورقة ... لو ما عملتْ هيك وشجعتني كان أنا اليوم شاعر عظيم ...
ضحكت من أعماقي حتى كدت استلقي على ظهري ...لأجيبه بعدها ... بالعكس انا عملت معك معروف .. كان انتَ اليوم مشْ لاقي توكل وبتكتب قصايد ما بيقراها حدا .... ثم أَضَفْتُ جاداً لم تخسر الكثير يا صديقي ... ففصولُ حياتك مَلْحَمَةٌ بحد ذاتها فيها من الإبداع والإلهام ما تعجز عنه الكثير من بحور الشعر والقوافي ....