رم - د.منذر الحوارات
قيل الكثير بأن شراهة الولايات المتحدة للنفط والهيمنة الأممية هما من قادها لمنطقة متخمة بالصراعات والضغائن، لكن هذه الشراهة الأميركية تراجعت كثيراً في المرحلة الأخيرة بسبب تزايد التهديدات عليها من قوى صاعدة عديدة اهمها الصين وربما روسيا، والتي باتت تشكل خطراً يهدد هيمنتها على العالم، لذلك اصبحت رغبتها جارفة في التخلص من عوالقها في المنطقة والذهاب حيث تلك الأخطار الاستراتيجية، وهي لأجل ذلك حاولت تقليص عدد قواتها وحجم إنفاقها العسكري ونسبة تداخلها في الصراعات الإقليمية والمحلية، وحاولت أن تعتمد على وكلاء محليين يقومون بالدور نيابة عنها، لكن هذا الأمر قاد المنطقة الى صراعات إقليمية لدول طامحة وبالتالي مزيد من التأزم والصراعات البينية التي استدعت دائماً تدخل منها بالإضافة الى الأطراف الدولية التي اعتقدت أنها مهيأة لملء الفراغ.
بسبب ذلك تراجعت الثقة بالولايات المتحدة خصوصاً عندما أحجمت عن الرد على الهجمات الحوثية على المملكة العربية السعودية والإمارات العربية، أما الآن فهي تجد نفسها مضطرة للعودة للدفاع عن حليف ليس ككل الحلفاء بعد ان مرغت ضربات المقاومة انفه بالتراب، وكادت أن تسقطه ارضاً في السابع من أكتوبر وانهت أسطورة تفوقه المزعومة في عدة ساعات ليس إلا، وجدت الولايات المتحدة نفسها بعد هذا الحدث عالقة في وحل المنطقة المعقد، بل ووجدت كل طاقاتها اللوجستية في مواجهة لاعب محترف طالما تمكن من النجاح في التفوق التكتيكي على الولايات المتحدة، ابتداء من أزمة الرهائن وليس انتهاء بالبرنامج النووي، أعني هنا ايران التي تدرك كيف تشاغل الولايات المتحدة عند حافة الهاوية فهي ترفع وتيرة تصعيدها عندما تعلم ان الامريكان غير قادرين على الرد وتخفضها عندما تكون متأكدة ان لديها النية الجادة للتصرف، وهذه كانت في مرات نادرة إذ اعتبر الاميركان دوماً ان ايران طائر ضال يجب ان يعود الى قفصه الذي غادره لذلك هم لا يشدون الحبل معها لغاية الانقطاع.
والحرب الأخيرة في غزة تثبت ذلك فعندما تأكدت إيران ان الولايات المتحدة جادة في توجيه ضربة قاسية لكل حليف للمقاومة انسحبت بهدوء وأنهت في لحظة تحالفاً أسست عليه تواجدها في المنطقة لعقود حيث بنته على مقولة واحدة تحرير الأقصى، لكن ذلك الشعار تداعى في لحظة الحسم واستبدل مكانه اللحظة الفلسطينية التي يجب ألا يشوبها احد آخر، واكتفت بدل المشاركة الفعلية بمشاغلات جانبية لم تكن بأي حال من الأحوال كافية لتخفيف ضغط قوات الاحتلال عن الغزيين، لكنها بعد ان تأكدت من نية دولة الاحتلال اقحام حزب الله حليف ايران وجوهرة تاجها في المنطقة في حرب كبرى، قررت ان تفتح جبهة أخرى في العراق سرعان ما استطاعت الولايات المتحدة استيعابها بتوجيه رسالة قوية للعراقيين، لم تيأس ايران من محاولات اغراق الولايات المتحدة في ساحة ليس من السهل الخروج منها، فكان الحوثيون واليمن وباب المندب الذي كان مفتاح ايران لإبعاد أميركا عن دعم إسرائيل في حربها المتوقعة ضد حزب الله، ربما لم تأخذ اميركا هذا الأمر على محمل الجد في البداية، لكنها عندما تأكدت ان ايران ذاهبة الى الحدود القصوى في التأزيم ومع بداية تأثر التجارة العالمية سارعت للحصول على قرار من مجلس الأمن ضمنته فقرة تعطي اصحاب السفن المُعتدى عليها الحق في الدفاع عنها، ادركت ايران بسرعة ان الامور دخلت لحظة حسم، فسارعت الى التنصل من افعال الحوثين وقالت ان ذلك كان قرارهم المستقل.
هكذا اذاً اخذت لعبة شد الحبل بين اميركيا وإيران منحنى خطير ليس من المتوقع أن يدخل مرحلة المواجهة المباشرة لمقدرة إيران الفائقة على التملص، وأيضاً غياب الرغبة والحافز لدى الولايات المتحدة للدخول في صراع يدوم ولا يُعرف مداه، لكن بدون شك ان ايران تُغرق أميركا رويداً رويداً في وحل المنطقة برغم أنها ابقت دائماً مفاتيح العبور بيدها وحدها، فهي الوحيدة القادرة على السيطرة على كل هذه الفوضى في المنطقة لأنها هي من صنعتها، لذلك تبقى ايران هي الرابح الأكبر حتى الآن ما لم تنشب حرب كبرى، بينما خسر العرب كما دائماً وأميركا التي تصارع كي لا تتورط، لكن هيهات فشحنات الأسلحة إلى مطار بن غوريون ومعارضة وقف الحرب في مجلس الأمن يجعلها متورطة حتى النخاع في جرائم الحرب والابادة الجماعية بحق الفلسطينيين، فمحكمة العدل الدولية لا تحاكم إسرائيل وحدها بل المتهم الأول في القفص هي أميركا وقوتها وانحيازها وتعالي قادتها على كل من هو ليس إسرائيلي في المنطقة، لذلك ستبقى اميركا غارقة هنا إلى أن تختنق بظلمها وجبروتها وعدوانها علينا.