صدرت حديثّا المجموعة القصصية رؤية ـ قصص قصيرة جدا للكاتب الأردني الدكتور حسين جداونه في كتاب إلكتروني، وهي المجموعة القصصية الثانية عشرة ضمن مشروع الكاتب الإبداعي في السرد الوجيز: القصة القصيرة جدا. يضم الكتاب مئة نص، ويقع في مئة وإحدى عشرة صفحة من القطع المتوسط، الطبعة الإلكترونية الأولى 2024م.
تناولت المجموعة بعض القضايا الأساسية والمفصلية المتعلقة بالذات الإنسانية، في أثناء مواجهتها للواقع المعيش، إذ يشتبك الهمّ الفرديّ بالهمّ العام. فقد رصدت عن قرب تقهقر الذات وانسحاقها أمام الواقع القاسي، الذي وجدت نفسها تخوض حربًا شرسة معه، فإذا تركته فإنّه لا يتركها. فحملت المجموعة مضامين إنسانيّة واجتماعيّة ونفسيّة وسياسيّة واقتصاديّة وفكريّة، مستهدفة المجتمع المحلي، ومن خلاله المجتمع العربي والإنساني. وانتصرت للقيم الإنسانيّة العميقة: الخير والمحبة والتسامح، مقابل الشر والكراهيّة والتعصب.
واجه الكاتب عبر قصصه العالم الواقعيّ، وفي الوقت نفسه توارى متقنًعًا بها؛ ليخفّف من ضغط مواجهة العالم، وأثقاله التي تجثم على تفاصيل وجود الذات، الجسدي والروحي.
ثمة رؤية مهيمنة على نصوص المجموعة، تتجلّى حينًا وتختفي حينًا آخر، لكنّها كامنة خلفها جميعًا، إذ تكشف عن حالات رغبة الذات ورهبتها، وإقبالها وإدبارها، وأملها وجزعها، وعلوّها واستفالها، وبذلها وأنانيّتها، راصدة تقهقر الذات وانسحاقها أمام الواقع المعيش، لكنّها في النهاية لا تفقد الأمل وإن كان بعيدًا. فهي لا ترمّ الجراح على فساد، ولا تعوّض الخسائر بخسائر مماثلة، لكنها تكشف وتعري ضعف الإنسان وهشاشته. وإذا كانت الدهشة وليدة الشك في الفرضيات، وإعادة النظر في كل ما كان مألوفًا؛ بحثًا عن الحقيقة، فإن نصوص هذه المجموعة جاءت بمثابة أسئلة احتجاجية على كل ما هو مألوف ويقينيّ ومتزمّت في ثقافتنا.
تلبّي القصة القصيرة جدًّا حاجات المبدع جماليًّا وفكريًّا، عبر معمارها الفنيّ المتميّز عن غيرها من فنون النثر. وإذا كانت الق ق ج خروجًا عن الفن القصصيّ المتوارث الذي يقصّ حكاية ما، فالحكاية فيها قد تتجلّى، وقد تتوارى خلف لقطة مشهدية أو فكرة ما. وربما تتقاطع مع الحكمة، التي يحكم على قيمتها من خلال ما تقوله، أمّا الق ق ج فإنّها تكتسب قيمتها من خلال ما أرادت أن تقوله، وليس من خلال ما قالته فقط.
وبلغة سهلة مكثفة، بعيدة عن التعقيد والإسهاب نسج الكاتب قصصه، مستخدمًا تقنيات سردية متنوعة تتواءم مع هذا الجنس الأدبي المشاغب. وثمة رؤية أساسيّة في نصوص المجموعة يتبعها الكاتب وهي المواءمة بين البناء الفني المكثّف، وبين السماح للبنية بنقل المعاني المشفرة فيها إلى المتلقي، بحيث لا يقف التكثيف حاجزًا بينهما، وإلا فقد النصّ قيمته، وتحوّل إلى نصّ عبثيّ. وقد استخدم الكاتب تقنيات متعدّدة مثل: الانزياح والمفارقة والأنسنة والسخرية والترميز وغيرها من التقنيات الفنيّة، داعيًا المتلقي إلى المشاركة في بناء النصوص، وفق وعيه وإدراكه وأدواته المعرفيّة وثقافته، ومن ثم تفسيرها وتأويلها. وإذا كان سحر القصة القصيرة جدا يتمثل ببساطتها وفنيتها وإبداعها، فإنّ هذا ما يصبو إليه الكاتب.
ومن أجواء المجموعة القصصية نقرأ النصوص الآتية:
حقل
في المساء، رجع إلى بيته. ضمّد جراحه، أطفأ حرائقه، لملم شظاياه جبّر عظامه..
في الصباح، استأنف سيره، في حقل الألغام من جديد...
***
رؤية
تمّ نموّه..
طلبوا منه الاستعداد للمغادرة. سألهم إلى أين؟ قالوا له بلهجة حاسمة: إلى دنيا آبائك وأجدادك. أطرق واجمًا، أخذ نفسًا عميقًا، ثم قال لهم:
ألا يوجد مكان آخر؟
***
حلم
لم يكن أمامه سوى حلم جميل أو احتمال آخر مريع.
كافح بشراسة، قاوم جميع المعوّقات، آمن بقدراته، وكان مصمّمًا على تحقيق حلمه الجميل.
أخيرًا، تحقّق الأمر الآخر المريع...
***
جريمة
رسم خريطة الوطن الكبير،
هدم الحدود فيما بينها،
ألقوا القبض عليه،
بتهمة التخريب...
***
أمل
أسمع الطبيب يقول: هناك أمل..
أقفز فوق صهوة الجواد.. أسابق الريح.. أزرع رمحي في قمة التل.. تتناوشني السهام من كل جانب..
أسمع الطبيب يقول: ما زال هناك أمل.. ضئيل...
***
الدكتور حسين جداونه: كاتب وباحث من الأردن. له عدة كتب متخصصة في النقد الأدبي. وفي السرد الوجيز له العديد من القصص القصيرة جدًا، منها مجموعة "عيون أمي" (ط1، ط2)، ومجموعة "علقمة"، ومجموعة "أقنعة"، ومجموعة "دروب"، ومجموعة "أجهش للبكاء"، ومجموعة "الأوغاد"، ومجموعة "حلم"، ومجموعة "مشروع خيانة"، ومجموعة "صرخة"، ومجموعة "غابة"، ومجموعة "سجال"، بالإضافة إلى مجموعة "رؤية".
لن ينشر أي تعليق يتضمن اسماء اية شخصية او يتناول اثارة للنعرات الطائفية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار وكالة رم للأنباء - أخبار عاجلة، آخر الأخبار، صور وفيدوهات للحدث. علما ان التعليقات تعبر عن راي اصحابها فقط.
|
|
الاسم : | |
البريد الالكتروني : | |
التعليق : | |