رم - ماذا حمل العائدون معهم من باريس هذا الصيف؟ ربما كانوا قلة، لكنهم من نخبة الذوّاقة في عالم السياحة والفرح... وربما الثقافة أيضًا.
لم يتوقف الشعراء يومًا، ولا الكتاب ولا الإعلاميون عن زيارة باريس والتسكع في طرقاتها وأزقتها وساحاتها وحدائقها. وبعد أن أتعبهم السير والتحديق في نساء باريس، جلسوا يكتبون شعرا تسهر معه أحلامنا، ونثرا يسفّ به الألم قلوبنا كما تسفّ الريح التراب في مدن الملح.
ربما سار البعض في جادة "الشانزليزيه" بين ساحة "الكونكورد" وقوس النصر، ومشوا تحت ظلال أشجارها يحدثون أنفسهم: هل مرّ من هنا "جان بول سارتر" يتأمل مفكرًا؟ وربما "همينجواي" أو درويش؟
ربما بهرتهم السلع في واجهات العرض في الأسواق والمتاحف على جانبي الجادة، وشاهدوا ما تعرضه دور الموضة والأزياء العريقة، وتأملوا في الأبعاد والمقاييس التي تسمح بها الموضة الدارجة من سفور، وفي الأقمشة ألوانها وتركيبتها وملمسها ونزعاتها الحديثة.
من منهم لم توقفه عطور باريس بروائحها التي مزجت الأسرار والنور والموسيقى، فرقصت القلوب مع النفحة الأولى وحلقت معها الأرواح.
وماذا لو شاركوا الليل سهره الموصول حتى صباحه، وتجرعوا الوقت كأسًا بعد كأس؟
ماذا حملوا معهم يوم عادوا؟ لا تقل لي أجود أنواع الشوكولا الفرنسية!
هل ناقش أحدهم نتائج الانتخابات الأوروبية وفوز اليمين المتطرف فيها وحصوله على أكثر من 31% من الأصوات؟ وكيف دفع ذلك "إيمانويل ماكرون" لحل الجمعية الوطنية والدعوة لانتخابات تشريعية مبكرة؟ وبعد دورتين في 30 حزيران و7 تموز، أسفر الاقتراع عن تقدم اليسار وحصوله على 182 مقعدًا، ثم التحالف الرئاسي "معًا" وحصوله على 168 مقعدًا، ثم التجمع الوطني اليميني المتطرف وحصوله على 143 مقعدًا وتأخره بعد تقدمه في الجولة الأولى. كيف تحالفت الأحزاب بمختلف أطيافها لتحول دون فوز اليمين المتطرف بأغلبية مطلقة في الجمعية الوطنية! أليست ظاهرة تستحق الدراسة؟ لماذا التقت آمال الشعوب الأوروبية حول يمينهم المتطرف؟
بعد الانتخابات، أعلنت هدنة أولمبية لقيام الألعاب الأولمبية الصيفية 2024 في باريس التي أقيمت بين 24 تموز و11 آب. وبعد انتهاء هذه الألعاب، ستستمر المعركة السياسية لتشكيل الحكومة واختيار رئيس الوزراء؛ حكومة تصمد أمام سلطة النواب الذين يلوحون بورقة حجب الثقة.
كانت أضواء باريس هذا الصيف مبهرة بأحداثها السياسية والرياضية أيضًا!
تضمن برنامج الألعاب الأولمبية 329 حدثًا في 32 رياضة أقيمت في باريس و16 مدينة أخرى.
أنفقت بلدية باريس مبالغ طائلة لإعداد نهر السين وتجهيزه للرياضات المائية، وشاهدنا عمدة بلدية باريس "آن هيدالغو" تسبح في النهر لإقناع المتشككين، وهي التي دعت العام الماضي لتشكيل لجنة "للتعايش" مع جرذان باريس! هذه الجهود لم تمنع إصابة اللاعبة البلجيكية "كلير ميشيل" بعدوى بكتيرية إثر مشاركتها في سباق التتابع المختلط والسباحة في نهر السين، مما دفعها للانسحاب منه في اليوم التالي.
أقيمت على نهر السين حفلة الافتتاح التي تضمنت عددًا من اللوحات، أثارت إحداها الانتقاد لمنظميه بسبب محاكاتها للعشاء الأخير بمشاركة راقصين يرتدون ملابس نسائية إشارة لمجتمع الميم. من جانب آخر، تعرضت المغنية الفرنسية من أصل إفريقي "آية ناكامورا" التي شاركت في حفل الافتتاح لحملة كراهية عنصرية من قبل بعض الجماعات اليمينية المتطرفة التي اعتبرت اختيارها إهانة للهوية الفرنسية.
قضايا عنصرية أخرى أثارت جدلًا واسعًا، منها منع ارتداء الحجاب للّاعبات المسلمات ومنع مشاركة اللاعبين الروس والبيلاروس على خلفية الحرب الأوكرانية، ومشاركة اللاعبين الإسرائيليين رغم الإبادة الجماعية للفلسطينيين في غزة.
كما فضحت الهتافات التمييز العنصري ضد اللاعبين من أصول إفريقية وعربية وعدم المساواة. وما تعرضت له الملاكمة الجزائرية إيمان خليف بعد فوزها على منافستها الإيطالية "أنجيلا كاريني" من انتقادات بأنها "ربما تكون رجلًا في شكل امرأة" خير مثال على ذلك.
لن نترك الأولمبياد دون أن نعرّج على الكارثة التي واجهت لاعب القفز بالزانة الفرنسي "أنتوني أميراتي"، والتي أخرجته من السباق بعد أن اصطدم عضوه الذكري بالعارضة، مما تسبب في حرمانه من منصة التتويج، ليضع اللوم على ذكورته المفرطة! هل كانت كارثة حقًا؟ ألم يزد عدد متابعيه على "إنستغرام" الذين يطمعون في تعلم هذه الرياضة؟!
ربما تدق هذه الحادثة جرس الإنذار في وجه اللاعبين، وتنبههم للسيطرة على كافة العضلات، المطيعة منها والمشاكسة، سواء أكان اللاعب قافزًا بالزانة أو لاعبًا سياسيًا!
والآن قل لي ماذا أحضر معهم العائدون من باريس؟ زجاجة عطر أم قطعة جبن فرنسي؟ هل أحضروا معهم شيئًا غير الخيبة؟
سعيد ذياب سليم