رم - عبدالهادي راجي المجالي
منذ شهرين وأنا لم انقطع عن الكرك، القصة ليست انتخابات.. ولكني أمر في طريق العودة على قبري أمي وأبي، وبصراحة قبر أمي يحتاج لترميم.. يحتاج لرفع الطوب وإعادة كتابة الشاهد، لقد محى الزمن لون الكتابة عنه.. والحشائش نبتت في الزوايا.. وبالمناسبة قبر أبي أيضاً يحتاج لذات الأمر.
اتفقت مع (عبداللطيف) وهو عامل وافد.. يعمل في مجال (القصارة) على ترميم قبريهما، وكلما هممنا بالبدء قال: (خلي الانتخابات اتعدي ع خير.. وانا اديك شغل صح).. أسأل عبداللطيف: وما هي علاقتك بالانتخابات..؟ وقد أوضح لي أنه يقوم بحراسة (صيوان) انتخابي، وصب القهوة على رواد الصيوان أيضا.
المهم أجريت مسحا لقبريهما.. واتفقنا على التكلفة، وعلى كمية الطوب.. أيضا اتفقنا على.. تنظيف الممر.
الناس تعود لمدنها وقراها من أجل زيارة الأحبة الأحياء، وأنا صرت أعود للاطمئنان على الأموات.. المشكلة هي لهفة اللقاء التي تدب في جسدي لحظة وصولي للمقبرة، والمشكلة هي الحيرة التي تنتابني حين أخطئ في الصفوف.. ولا أجد قبر أمي، وهل يرحل ميت من مكانه؟.. أنا يعتريني هذا الشعور حين يكون الغروب قد حل.. وحين أتوه بين القبور، ولكني أضحك على نفسي.. وأعيد السؤال يا ترى هل يرحل قبر من مكانه؟.. وحين انهي قراءة الفاتحة أغادر، لقد كبرت كثيرا ونظري لم يعد يساعدني، المقبرة أيضا كبرت كثيرا وتم توسيعها.. والحزن يكبر، المدن هي الأخرى تتسع.. إلا الحلم صار صغيرا على قلبي.. لم يعد هذا القلب يتسع للحلم.
هذا الصباح أعدت الاتصال مع عبداللطيف، وقال لي: (حديك حاجة تدعيلي.. بس أخلص الانتخابات).. ها أنا انتظر.. وسأذهب للكرك، سأدلي بصوتي ثم أحضر الماء وأذهب للمقبرة.
على كل حال.. أمي لم تتركني، كل اسبوع تأتيني في الحلم، تسلم علي.. كل اسبوع تأتي بابتسامتها ومنديلها الأبيض، وأحيانا حين تغيب أعاتبها.. وأنا مثلها أزور القبر كثيرا وأقرأ الفاتحة.. هي تأتي في أحلامي وأنا أزور مستقرها الأخير على أرض الواقع، والحب لم ينقطع بيننا.. والدعاء لم ينقطع.. وحتى الشوق هو الآخر لم ينقطع، وأغضب أحيانا.. حين أجد أنهم أخذوا من جوارها قبرا.. ووضعوا فيه أحدا، كنت أريد لهذه المساحة أن تبقى فارغة.. وقد حاولت شراءها لكنهم أخبروني أنها أرض بلدية ولا يوجد فيها شراء.. كنت أحاول فقط أن أحجز لي مساحة.. حتى يكون رأسي بجانب قدمها.. حين يأخذ الله وديعته.
أمي ماتت بعد سقوط بغداد مباشرة عام (2003).. ماتت وفي قلبها لوعة مما حدث، وحزن كبير وألم.. والحمد لله أنها لم تشهد ما يحدث في غزة، فلو شهدته لزاد حزنها أكثر..
وها أنا أزورها كلما عدت للكرك.. أزورها شوقا وحبا، وأزورها أيضا لأن احدا لم يعد يسمع لي.. غير القبور.. أي زمن هذا الذي تعاقبنا فيه الحياة بالمقابل يكون الموت فيه هو الحنون علينا؟
[email protected]