مهدي مبارك عبد الله
الكوفية او الحطة الفلسطينية هي وشاح قماشي بنمط المربعات باللونين الأبيض والأسود يشبهها البعض بشبكة صيد السمك وترمز رسومها إلى البحر وطائر فلسطين ولم تعد رمزا للفلسطينيين فحسب ولكنها ايضا غدت رمزا للثورة ورفض الاستعمار ومقاومة الاحتلال في كل مكان بعدما تغلغلت في الثقافة العالمية وبدأت تدخل في الأزياء الشعبية وتعبر عن الرمزية الكفاحية للشعوب الثائرة وقد ارتبط اسم الكوفية بمنطقة الكوفة في العراق حيث كان أهلها أكثر من يتقن صنعها بحسب بعض الباحثين فيما يرجع اخرون أن الكوفية سميت كذلك لارتباطها بمعنى ( التكوّف ) أي الاستدارة على الرأس.
ترتدى الكوفية عادة مع العقال على الرأس او حول الرقبة وقد أصبحت قطعة أثرية تاريخية توثق قصة شعب ثائر وشعارا وطنيا فلسطينيا ورمزا دبلوماسيا وسياسيا كما انها صارت مدعاة للفخر والعزة والكرامة لكل من يرتديها بعدما دفع ابناء الشعب الفلسطيني شلالات من الدماء للحفاظ على هويتها وكيانيتها كرمز فلسطيني ثقافي مقاوم في وجه المشروع الاستعمار الصهيوني والغربي المتغطرس ولطالما حاول الاحتلال طمسها والقضاء عليها من خلال سياسة القتل وارتكاب المجازر والابادة الجماعية التي يندى لها جبين الإنسانية إضافةً إلى انتهاجه سياسة التجويع ومحالات تهجير الشعب الفلسطيني عن أرضه.
العالم قاطبة عرف الشعب الفلسطيني ومحنة قضيته من خلال الكوفية التي كان يرتديها الرئيس الراحل ياسر عرفات خصوصا بعد خطابه الشهير في الأمم المتحدة عام 1973 والتي لازمته حتى آخر يوم في حياته بعدما صال وجال بها في مختلف ارجاء المعمورة كما ارتداها الثائر وديع حداد القيادي المتقدم في الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين وعلى مر الايام وتوالي السنين أصبحت الكوفية عنوان بارز للنضال والمقاومة واستعادة الحق الفلسطيني المغتصب ومقدمة لتذكير الآخرين بأن هذا الشعب لا يزال موجودًا بقضيته الوطنية وحقوقه السياسية ولتسليط الضوء ايضا على نضالاته وفواجعه وهو يحث الخطى بالدم الغالي والتضحيات العظيمة على طريق احريته واستقلاله .
اليوم وفي ظل استمرار العدوان الصهيوني البربري النازي على قطاع غزّة نرى أحرار العالم من شعوب عربية وغير عربية وفي جاذبية فريدة تلتحف العلم الفلسطيني وترتدي الكوفية الفلسطينية وتصدح بأصواتها عاليا دفاعا عن حقوق الشعب الفلسطيني في مختلف مدن وعواصم العالم بما فيها واشنطن حامية وراعية ارهاب اسرائيل والعديد من الدول الغربية الداعمة لها وعلى النقيض من ذلك نجد عرب واجانب من الاصناف البشرية البائدة ممن يكرهون ويستعدون ويتحاملون على كل ما يرمز للهوية الفلسطينية وتراثها التاريخي وشعبها الابي وبما يشكل إيذاءً كبير لمشاعر الفلسطينيين والشعوب العربية والعالمية الحرة التي خرجت للشوارع والميادين للدفاع عن الشعب الفلسطيني ونُصرةً حقوقه وقضيته العادلة.
ضمن اجراءات منع أيّ شيء يرمز أو يعبّر عن دعم الحق الفلسطيني ومع عجز وتواطئ بعض الأنظمة العربية لاحظنا الكثير من الممارسات الغريبة التي تساوقت مع السردية الصهيونية في اكاذيبها وتماشت مع نصرة الاحتلال الذي لا يتردد لحظة واحدة في قصف واستهداف كل ما هو فلسطيني والتي تكشف معهاعن حالة عجز وتواطؤ مفضوحة وبينما ينظر الفلسطينيون إلى كوفيتهم كرمز لهويتهم الثقافية والوطنية يرى آخرون أنّها تهديد عنيف غير مقبول او مبرر.
قبل اشهر قليلة وفي احدى الدول العربية الواقعة في شمال افريقيا ( نعف عن ذكر اسمها ) رفض عميد كلية العلوم في احدى جامعاتها الرسمية في حفل التخرج العام تسليم الشهادة الجامعية لطالبة متفوقة بسبب ارتدائها الكوفية الفلسطينية تضامنا مع الشعب الفلسطيني الأعزل في قطاع غزّة بدعوى واهية وسخيفة ومخزية بأنها تعبّر عن ( موقف سياسي ) بارتدائها الكوفية الفلسطينية وفي المقابل خصصت بغض الدول العربية الشريفة جناح خاص بالزي والتطريز التقليدي الفلسطيني ضمن معروضات مهرجاناتها الثقافية الوطنية .
كما شاهدنا في مختلف ميادين الاحتجاجات المليونية عبر العالم للتضامن مع القضية الفلسطينية حيث يضع المتظاهرون الكوفية الفلسطينية حول أعناقهم أو لتغطية وجوههم وهم يطالبون انهاء الحرب الاجرامية والابادة الجماعية الإسرائيلية في قطاع غزة والتي تسببت في استشهاد عشرات الآلاف وبروز أزمة إنسانية قاتلة حيث باتت الكوفية تزين أعناق الكثير من الوطنيين الأحرار في العالم وخلال انتفاضتي الحجارة والأقصى في الضفة العربية المحتلة ظهرت الكوفية بزخم من جديد بعدما ارتداها المشاركون بالفعاليات بشكل كبير وقد حاول الاحتلال بكل السبل القضاء على هذا الرمز من خلال محاربته بالقوة تارة وبالتشويه تارة أخرى لعلمه بمدى تأثيره في الغرب والشرق .
أنصار إسرائيل في العالم ومن بينهم بعض الشعوب العربية والاسلامية وانظمة الحكم الغارقة في التطبيل واوحال التطبيع يبررون زورا وبهتان بان ارتداء الكوفية الفلسطينية في الاماكن العامة والخاصة يشكل استفزازا صارخا لمشاعر الاخرين أي اليهود ويروجون لعلامة سياسية مرفوضة تدعم التطرف والارهاب وتمثل انتهاك لقواعد الزي المعتادة عالميا.
الثابت تاريخيا ان اول استعمال نضالي وثوري للكوفية الفلسطينية كان في عام 1936 عندما أطلق الفلسطينيون الثورة الشعبية الكبرى ضد الاحتلال البريطاني حيث استعملت الجماعات الفلسطينية المسلحة والتي كانت تتكون من الرجال الفقراء الكوفيةَ الذين كانوا يرتدون بشكل أساسي الكوفية كزي وهو ما سهّل على البريطانيين انذاك استهدافهم خاصة عندما بتواجدون في المدن و المناطق الحضرية .
كما توشح بها القائد المجاهد عبد القادر الحسيني ورجاله في أربعينيات القرن الماضي وارتداها الثائر الإيطالي " فرانكو فونتال " الذي انضم إلى صفوف الثورة الفلسطينية في لبنان عام 1975 وقاتل في صفوفها 22 عام وكذلك الناشطة الأمريكية المدافعة عن الفلسطينيين راشيل كوري التي قتلت عام 2003 وهي تلبس الكوفية وتحاول منع جرافات الاحتلال من هدم منازل الفلسطينيين في رفح جنوب قطاع غزة وفي عام 2006 ألقى رئيس الوزراء الإسباني الأسبق "خوسيه لويس ثباتيرو" خطابا انتقد فيه دولة الاحتلال بشدة ثم قبل كوفية أحد الجمهور وأخذت له صورة وهو يرتديها .
اللافت ان الكوفية الفلسطينية خلال مسيرتها الشعبية لم تكن حكرا على الرجال فقد بدأت النساء ايضا بارتدائها وتم تصوير العديد من الفلسطينيات المناضلات وهن يرتدين الكوفية ملفوفة حول شعورهن وأعناقهن خلال فترات الستينيات والسبعينيات والثمانينيات أمثال ليلى خالد والشهيدة شادية أبو غزالة والشهيدة دلال المغربي كما تغنى بها الشعراء والمنشدون والفنانون وارتداها اعضاء الفرق الشعبية الفلكلورية وغيرهم وهو ما ساعد في ترسيخ مكانة الكوفية والمرأة الفلسطينية الثائرة كرمز للتحدي والمقاومة في مسيرة الثورة الفلسطينية المعاصرة.
الفلسطينيون عامة يعتبرون الكوفية التي تلطخت بدماء الشهداء والجرحى والمعتقلين رابط مهم لثقافتهم وأن ارتدائها أشبه بحمل البندقية والقنبلة لانها رمز قوي للمقاومة والوجود وهي بطاقة الهوية للتعريف بالقضية الفلسطينية وتاريخها وحقوقها كما انها تحمل مشاعر الفخر والاعتزاز والانتماء والولاء لكل فلسطيني وتذكره بعائلته وأجداده وقد باتت اليوم صورة حية للفدائي والثائر والمضحي والمقاوم من أجل وطنه و قضيته .
على مدى سنوات طويلة واجه الشعب الفلسطيني بكل قوة وصمود وثبات الاحتلال الاسرائيلي الغاشم وقاوم غطرسته المنقطعة النظير وهو يحيي ومؤسساته التربوية في الوطن والشتات في السادس عشر من تشرين الثاني من كل عام يوم الكوفية باعتباره يوم وطنيً يتوشح فيه الطلبة كافة ومديرو المدارس والمعلمون والموظفون بالكوفية ويرفعون الأعلام الفلسطينية وينشدون الأغاني الوطنية والشعبية خاصة وإن وسائل الإعلام الغربية وفي ارتباط سلبي تشير بشكل متكرر إلى الكوفية في القصص المتعلقة بالإرهاب أكثر من تلك المتعلقة بمقاومة الاحتلال والمطالبة بالحرية والعدالة الاجتماعية والحياة الكريمة
مدينة الخليل في جنوب الضفة الغربية المحتلة تحتضن المصنع الوحيد في فلسطين الذي ينتج الكوفية الفلسطينية والذي أسسه الحاج ياسر الحرباوي عام 1961 خصيصا لصناعة الكوفية لإدراكه لأهميتها كرمز من الرموز الفلسطينية التاريخية التي يجب ان تبقى جزء فاعل ومؤثر للثورة والمقاومة.
العديد من الحكومات الغربية مارست التضييق الامني والقانوني على كل من يرتدي الكوفية الفلسطينية حيث قامت مؤخرا السلطات الفرنسية بتغريم أحد المتظاهرين المتضامنين مع فلسطين مبلغ 135 يورو لارتدائه الكوفية إلا أن ذلك الحكم الجائر ساهم في زيادة انتشارها في مدن العالم المختلفة رغم ان ارتدائها قد يعرض الشخص لمشاعر معادية للفلسطينيين أو كراهية للإسلام أو لممارسات التمييز والعنصرية التي تصل حد الاعتداء الجسدي العنيف والقتل.
التاريخ لن يرحم احد وسوف يسجل المواقف المخزية لبعض الدول العربية المطبعة والمتخاذلة مع هذا الاحتلال وهي تقدم كل جهدها العاجز عبر بيانات الشجب والتنديد السخيقة التي لا تساوي الحبر الذي كتبت به وسيبقى الخزي والعار يلاحق كل من وقف إلى جانب الاحتلال واجرامه خاصة أولئك الحثالة الساقطة ممن يسمون أنفسهم عبثا بالنخب والذين لا يعبروا عن إرادة الشعوب العربية والعالمية الحرة التي تتألم لما يتعرض له أبناء الشعب الفلسطيني الأعزل في غزّة وتسعى جاهدةً لدعمه ونصرة قضيته حتى ولو كان ذلك بأقل وابسط الامكانات المتاحة من خلال ارتداء الكوفية الفلسطينية .
يذكر ان هناك عدة حالات اجرامية تعرض فيها اشحاص للاهانة والاعتداء الجسدي او الطرد من وظائفهم بسبب ارتدائهم الكوفية الفلسطينية والتي كان اخرها قبل شهر تقريبا حيث فصل متحف نوجوتشي في مدينة نيويورك ثلاثة موظفين بتهمة انتهاكهم قواعد الزي المعتادة بوضع الكوفية على اكتافهم وقبلها أصيب ثلاثة طلاب من أصل فلسطيني في ولاية فيرمونت بالرصاص كان اثنان منهم يضعان الكوفية ورغم أن النية وراء وضع الكوفية على الكتف تعبير عن وجهات نظر شخصية بحتة الا انها ادخلت في دهاليز الدوافع السياسية والعنصرية لغايات شريرة في نفس نتنياهو وبايدن وغيرهما.
خِتامًا نقول انه لهذا السبب فقط تمكنت قطعة القماش البيضاء والسوداء برمزيتها الطاغية من استنهاض عزيمة المجاهدين وتوحيد المجتمع وإثارة مشاعر الولاء والانتماء والتمرد لأنها ارتبطت بالثورة والتوق للحرية والاستقلال
كاتب وباحث متخصص في العلوم السياسية
[email protected]
لن ينشر أي تعليق يتضمن اسماء اية شخصية او يتناول اثارة للنعرات الطائفية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار وكالة رم للأنباء - أخبار عاجلة، آخر الأخبار، صور وفيدوهات للحدث. علما ان التعليقات تعبر عن راي اصحابها فقط.
|
|
الاسم : | |
البريد الالكتروني : | |
التعليق : | |