رم - ذات مساءٍ في صيف عام 1999، وقفت حائراً بين قمصين، صحيح أن لا ثالث لهما لديّ، لكن أهمية اللقاء تفرض عليّ شيئا من الحيرة بغرض التأنق، فقد تلقيت دعوةً مسائية من الدكتور محمد العطيات للقائه تبدأ عصر ذلك اليوم.
لاحقًا بعد اتخاذ القرار والتطيب ركبت سيارتي البوني موديل 1978، والتي أكبُرها بسنة فقط، ورجعت عائدًا إلى مدرسة السلط الأهلية محملًا بأفكار عن طبيعة اللقاء، وكيف سيكون؟ وهل سيكون بمقدوري مناقشة الدكتور محمد العطيات؟ أم أنني سأكون مثل بعض طلابي الذين تلاصق ظهورهم جدار الغرفة في الأدراج الأخيرة من الصف وعيونهم ترسل رسائل صامته كنت أقرأها جيدًا تقول: لا تخترني من فضلك!
قطعت المسافة ببن بيتي والمدرسة بسرعة كبيرة، فليس من اللائق التأخر عن موعد كهذا، أوقفت سيارتي داخل ساحة المدرسة وليس خارجها، فأنا الآن ضيف ويحق لي التمتع ببعض مزايا الضيوف.
نزلت من السيارة، ودخلت الباب الأزرق الكبير الذي يأسر الطلاب صباحا ولا يفرج عنهم إلا بعد انتهاء اليوم الدراسيّ، كان للباب هيبةٌ ورهبة لا أدري سببها، هل لأنه الخط الفاصل بين حريتك الشخصية ومسؤوليتك المهنية؟ أم بسبب ضخامته ولونه الذي يشي بالهيمنة والغطرسة! مشيت باتجاه مكاتب الادارة، ولم ألمح أحدًا، بدأت بنداء الدكتور محمد ولكن لا مجيب. للحظة شعرت بشيءٍ من خيبة الأمل، وشيءٍ من الحنق، كيف تتم دعوتي ولا أجد المضيف في استقبالي، أو حتى أن يكون في المنطقة. للحظة كنت سأعتقد أنّ المضيف قد نسي الموعد برغم تأكيد انتظاره لي قبل مغادرتي المدرسة قبل بضع ساعات.
فجأة بدأت أسمع اسمي بلهجة مصرية وبصوتٍ مبحوحٍ قادمٍ من بعيد، خرجت استرق السمع لأحدد الاتجاه، كان حارس المدرسة أبو محمد أسفل الدرج، يتفصد من جبينه العرق، وكأنه قد تسلق مرتفع شاهق.
كانت هيئة ابو محمد في عصر ذلك اليوم غير وفية للأصل، ففي الصباح عندما كنت وزميلي رائد ابو هزيم نتسلل إلى مضجعه كي نحتسي القهوة الحلوة، وهو الاسم المتعارف عليه للقهوة التركية في ذلك الزمان، كانت هيئته مختلفه، رجل مسن يلبس جلبابا مصريا أنيقا، ويضطجع على الأريكة بابتسامه سرعان ما تتحول إلى دموع منهمرة بعد تشغيل شريط الكاسيت يستمع فيه إلى رسائل صوتية من أولاده الذين يعيشون بعيدًا في أم الدنيا مصر، في الحقيقة كانت الدمعات تكفي لكلمات الأولاد ولكن الشرير رائد ابو هزيم لا يلبث بعد تشغيل الكاسيت والاستماع إلى بعض الكلمات حتى يشرع بغناء" كتاب حياتي يا عين ما شفته زيه كتاب" الأغنية المشهورة ذاك الزمان وبعدها تتحول الدموع إلى أنهار تسح على الخدين المجعدين.
لبيت نداء أبو محمد اللاهث أسفل الدرج، نزلت إليه، قبلت جبينه، ودعوته للاستراحة، وبصوت محشرج أخبرني ان الدكتور محمد العطيات ينتظرني في الأسفل. ولكن أين الأسفل فالدرج لا يفضي إلا إلى الملعب، دققت النظر فرأيت بابا آخر أزرقًا ليس عليه من هيبة الباب الرئيس من شي، وإن تشابها باللون والتصميم. في الحقيقة كانت المدرسة جزءً من أرضٍ شاسعةٍ تتدلى منحدرة خلف جدار الملعب المدرسي.
نزلت الدرج بتوئدةٍ مراعاةً لسن الشيخ الكبير، فقد كان باستطاعتي اجتيار الدرجتين بخطوةٍ واحدة، فتح أبو محمد الباب الأزرق الذي يطل على مساحة أرض ترابها أحمر، خالٍ من العشب والحجارة، بها أشجارٌ كثيرةٌ من شتى الأنواع وإن كان الغالب على الشجر أنه زيتون.
استطلعت المكان فلا وجود لأحد سوى شخص آخر يشبه أبو محمد في سمرته، يلبس فوتيك أخضر بلا رتب وبيده فأس، ولولا صوت الدكتور محمد العطيات المميز في ترحيبه لما عرفته، حقيقة كانت مفاجأةً غير متوقعه، وربما لحظتها مخيبةٍ للتوقعات، فقد كنت مشوقًا لسماع أشعاره ومناقشة الرمز في كلماته، واختيار المفردات وتوظيفه للشخصية الشعبية في التمرد على واقعٍ أظن أنني اليوم أراه أجمل مما كان عليه ذلك الزمان. تحسس الرجل الخيبة، وربما رآها في عيوني وقال:
"أمين إنّ المواطن الصالح هو من يلبس البدلة ويمسك القلم صباحا، ويلبس الفوتيك ويمسك الفأس مساءً، في أتم اناقته صباحًا وفي أتمها إلتصاقًا بالأرض مساءً".
لم تكن كلمات الدكتور محمد العطيات تغادرني منذ ربع قرن، منذ التقيت به ذلك المساء، وها أنا في كل صيفٍ في زيارتي للأردن العزيز، أضع شماغ أبي رحمه الله، وأبدأ بممارسة مواطنتي الصالحة، بإلتصاقي بالأرض وبالفأس الذي يكون في يدي.
رحمك الله أستاذي الدكتور محمد العطيات