رم - لطالما كانت النساء عبر العصور في صراع مستمر بين الحفاظ على أدوارهن التقليدية وتحديها، سعيًا وراء الحرية والمساواة. من الأساطير القديمة إلى المجتمعات المعاصرة، عكست قصص النساء المحاربات صراعهن للتغلب على القيود المجتمعية.
شاع موضوع الأمازونيات في الأساطير اليونانية القديمة، حيث يُقال إنهن كنّ قبيلة من النساء المحاربات اللواتي عشن قرب البحر الأسود وفي شمال إفريقيا بمنطقة نوميديا القديمة. وتعددت النظريات حول أصل الاسم "أمازون"؛ فهناك نظرية تربط الاسم بـ "أمازيغ"، نسبة إلى الأمازيغ سكان تلك المناطق، بينما تفيد نظرية أخرى بأن "a-mazons" تعني "بلا صدر" في إشارة إلى أسطورة تفيد بأن الأمازونيات كنّ يقطعن أحد صدورهن لتسهيل استخدام الرماح في القتال.
يُعتبرن أول من استخدم الخيول في الحروب، وابتعدن عن العلاقة التقليدية مع الرجال؛ إذ استدعينهم لخدمة أغراضهن ثم إعادتهم. وقد واجهن أبطال الإغريق مثل هرقل وأخيل، وعكسن رموز القوة والاستقلالية. وتروي الأسطورة أن أخيل التقى بملكة الأمازونيات، بنتيسيليا، في معركة طروادة، حيث وقع في حبها بعد أن قتلها، مما يُجسد تناقض مشاعره بين واجبه كجندي وإعجابه بها كامرأة.
تُبرز هذه الأسطورة صراع النساء في ذلك الزمن، حيث مثّلت بنتيسيليا رمزًا للمساواة في القوة والكرامة، قائلة لجيشها: "لا بالقوة نحن أضعف من الرجال، ولا بالعينين، أجسامنا متماثلة، ونرى نورًا واحدًا، ونتنفس هواءً واحدًا، وطعامنا كطعامهم. فما الذي حرمتنا منه السماء وأعطته للرجال؟. حسب ما ورد في رواية كوينتس السميرناوي في ملحمته Posthomerica عن لقاء أخيل بملكة الأمازونيات التي أظهرت شجاعة وقدرة قتالية أثارت إعجاب الطرواديين.
بين التقاليد والثورة: التحديات الجندرية عبر العصور
تُظهر هذه الأساطير كيف عاشت النساء صراعًا دائمًا بين الخضوع للتقاليد والثورة عليها؛ فمنهن من حافظن على أنوثتهنّ وواجهن التحديات، ومنهن من خلعن ثوب الأنوثة وارتدين قناع الرجولة كوسيلة لمجابهة الواقع المجتمعي.
لم تقتصر هذه الظاهرة على حضارة أو فترة معينة؛ ففي التراث العربي، لدينا ملكات مثل زنوبيا ملكة تدمر وملكة البتراء، اللواتي قُدنَ الجيوش وحكمن ممالكهن بشجاعة واستقلالية. وفي التاريخ الإسلامي، برزت شخصيات نسائية شاركن إخوانهن الرجال المسؤولية، مثل أم سليم التي حملت خنجرًا في معركة حنين وثبتت مع من ثبت حول الرسول صلى الله عليه وسلم، وخولة بنت الأزور التي قاتلت الروم في معركة أجنادين وهي ملثمة، مما جعل خالد بن الوليد يتساءل عن هوية هذا "الفارس الملثم". تعكس هذه الشخصيات الدور الذي لعبته النساء اضطرارًا لتقمص أدوار الرجال وسط مجتمعات صارمة.
وفي التاريخ الحديث ساهمت النساء العربيات في حركات التحرر ضد الاستعمار مثل الجزائرية جميلة بوحيرد، وما زالت نساء فلسطين يسرن في درب التحرر إلى النصر بإذن الله.
الباتشا بوش: الصراع الجندري في المجتمعات المحافظة
وفي المجتمعات المعاصرة، نجد ظاهرة "باتشا بوش" في أفغانستان وباكستان، حيث تُجبر بعض العائلات إحدى بناتها على تقمص دور الذكر، فتقص شعرها وترتدي زي الصبيان، لتتخفف من القيود الاجتماعية المفروضة على النساء. يترجم مصطلح "باتشا بوش" من لغة الداري إلى "لابسة زي الفتى".
لكن الفتاة هنا تُظلم مرتين؛ أولًا عند حرمانها من حياتها كأنثى، وثانيًا عند عودتها إلى طبيعتها الأنثوية، حيث تدخل في صراع نفسي عميق بين دورها السابق كذكر وهويتها الأنثوية. تناولت الكاتبة الأمريكية ذات الأصل الأفغاني، نادية هاشمي، في روايتها اللؤلؤة التي كسرت محارتها، قصة رحيمة التي تحولت إلى "رحيم"، حيث وصفتها في ميادين منعت منها الفتيات، مجسدةً هذا الصراع النفسي. كما تناولت الكاتبة السويدية جيني نوردبرج في كتابها فتيات تحت الأرض في كابول، التأثير العميق لهذه الظاهرة على ثقة الفتيات بأنفسهن وفهمهن لأدوار الجنسين في المجتمع.
البورنيشا في البلقان: العذارى المحلفات في المجتمعات القبلية
وفي منطقة البلقان، ظهرت ظاهرة "البورنيشا" أو "العذارى المحلفات" على مرتفعات الألب الدينارية في ألبانيا والجبل الأسود وصربيا. هنا، تتخلى المرأة عن أنوثتها وتعيش كرجل، لتصبح "رجل العائلة" في حال غياب رجل من الأسرة. تلتزم بقص شعرها وارتداء زي الرجال، وتتحمل مسؤوليات حماية ورعاية الأسرة في مجتمع محافظ.
هناك نوعان من العذارى المحلفات؛ بعضهن أُجبرن على ذلك منذ الطفولة، والبعض الآخر اخترن هذا الدور بإرادتهن. ورغم تقدير المجتمع لتضحياتهن، إلا أن هذا الدور يحرمهن من حقوقهنّ كنساء. مع مرور الوقت، بدأت هذه الظاهرة تتلاشى بعد حصول النساء على حقوق اقتصادية واجتماعية أكبر. في رواية العذراء المحلفة للكاتبة "كريستوفر دوك"، تحكي قصة "إيلي" التي تتحدى تقاليد مجتمعها الألباني من خلال نظام "العذراء المحلفة". في النهاية، تختار الحب وتتزوج الرجل الذي أحبته، معبرةً عن انتصار إرادتها على قيود المجتمع وسعيها لتحقيق حريتها الشخصية.
بين القديم والجديد: هل الجندرية بناء ثقافي؟
يرى علماء الأنثروبولوجيا المعاصرون أن الجندرية ليست مجرد صفات بيولوجية، بل هي بناء ثقافي يعترف المجتمع به، ويتحدد من خلال الأدوار الاجتماعية التي يعترف بها.
تتنوع المناقشات حول المسألة الجندرية لتشمل عدة جوانب، مثل تأثيرها في التعليم، والعمل، والسياسة، والتشريعات، وأحيانًا يتم النظر فيها من منظور حقوق الإنسان ومفاهيم العدالة الاجتماعية.
في زمن الأمازونيات والباتشا بوش والعذارى المحلفات، كانت النساء يتحدين الأدوار التي فرضتها عليهن مجتمعاتهن. لكن اليوم، تأخذ معاركهن شكلاً مختلفًا، حيث يرفعن شعارات العدل والمساواة بدل السيف، ويتحدين الظلم والتهميش بطرق سلمية وحديثة.
ورغم أن المجتمعات المعاصرة تدعو غالبًا إلى المساواة، إلا أن بعض النساء ما زلن يخترن أدوار الرجال، سواء بسبب الظروف أو كنوع من التحدي. وهنا يظهر تساؤل: هل تغير الزمن حقًا؟ أم أن هذا الصراع الجندري قديم قِدم المجتمعات ومستمر في أشكال متعددة؟
سعيد ذياب سليم