رم - رنا الصباغ
أمام الخيارات الصعبة، يعمل صانع القرار الأردني بلا ضجيج لاستيعاب أبعادها وإعادة التموضع السياسي وبناء استراتيجيات وتحالفات جديدة، تمكّن المملكة من الانحناء أمام العاصفة السياسية التي ستواجهها خلال سنوات ترامب الأربع، لعبورها بأقل الأضرار الممكنة.
يحبس الأردن الرسمي والشعبي أنفاسه، بانتظار سلسلة الصفقات التي سيُطلقها الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترامب، لتنفيذ الوعود التي قطعها بعد فوزه لـ “إنهاء حروب العالم”، بما فيها حروب منطقة الشرق الأوسط المنهكة من الصراعات المتتالية، منذ إنشاء دولة إسرائيل.
لا أحد يعرف بعد شكل الصفقة التي يطبخها ترامب؟
لكن الخشية تكمن في طريقة عمل ترامب كرجل أعمال يفرض صفقات تعاقدية، أحياناً بالقوة أو بالتفاوض، لصالح الأقوياء على حساب الضعفاء. الأقوياء في هذه الحالة هم إسرائيل والمملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة وربما مصر، والطرف الضعيف هو الأردن والسلطة الفلسطينية.
في عهد ترامب الأول، تصدّت المملكة والسلطة الفلسطينية لـ”صفقة القرن”، التي حاول ترامب فرضها على المنطقة عبر حلول اقتصادية وتطبيع عربي مع إسرائيل، بدلاً من العمل على إنشاء دولة فلسطينية مستقلّة تعيش بجانب إسرائيل وتفتح الباب أمام التطبيع. كما حاول نسف الاستراتيجية التي راهن الأردن عليها لأكثر من عقدين، لحماية نفسه من خطر الترانسفير الفلسطيني من الضفة الغربية.
آنذاك، حدّد الملك الأردني عبدالله الثاني ثلاثة خطوط حمراء، قائلاً إنه لن يسمح لأحد بمسّها: لا للتوطين في الأردن، لا للتهجير، ولا لمسّ دور الأردن التاريخي في القدس لحماية المقدسات المسلمة والمسيحية. بعدها، صدرت تصريحات تعلن أن أي تهجير نحو الأردن سيصنّف على أنه إعلان حرب وسيتم التصدي له.
هذه المحدّدات أحدثت انفراجاً في الشارع المحتقن حول الجغرافيا والديمغرافيا، وهدفت إلى حماية الحقوق الأردنية والفلسطينية في أي تسوية.
لكن الموقف لم يسمح للأردن بتطويع مسار التشدّد، والموافقة على إرسال وفود ذات تمثيل عالٍ للمشاركة في مؤتمرات التعاون الاقتصادي والمائي التي عُقدت بين إسرائيل ودول خليجية، وبات من الصعب النزول عن الشجرة والتموضع لتقليل الخسائر.
علاقات العمل بين الملك عبدالله وترامب تأثرت كثيراً خلال هذه الفترة، مع أن مسؤولين مقربين يؤكدون أن العلاقات الشخصية جيدة. إذ حضرت إيفانكا، ابنة ترامب، وزوجها جاريد كوشنر، عرّاب مسار السلام والتطبيع في المنطقة، حفل زفاف ولي العهد الأردني الصيف الماضي…
وقف الملك وحيداً خارج المسار الترامبي، بينما هرولت الإمارات والبحرين والمغرب الى عقد معاهدات وإقامة تطبيع سياسي واقتصادي ضمن التفاهمات الإبراهيمية.
يقول محلل سياسي أميركي قريب من الحزب الجمهوري، إن إدارة ترامب الجديدة ستقلل من أهمية الأردن الاستراتيجية للولايات المتحدة، وسيمضي ترامب في مشروع السلام الإقليمي عبر تطوير تحالف عربي – إسرائيلي بالاعتماد على دولة الإمارات والمملكة العربية السعودية، وسيكون ترامب أكثر تحفظاً حيال العدوان الإسرائيلي على غزة ولبنان، وهما ملفان آخران يؤثران على المشهد الداخلي الأردني.
من الواضح أن رئيس الوزراء الإسرائيلي اليميني المتشدد بنيامين نتانياهو، يريد انتهاز فرصة عودة حليفه ترامب إلى البيت الأبيض للمرة الثانية والأخيرة، لتنفيذ مشاريعه التوسعية، مستغلاً الحرب على غزة ولبنان، التي كسرت شوكة نفوذ “حماس” و”حزب الله” في محور الممانعة إلى درجة كبيرة.
الوقت ملائم لنتانياهو لفرض أجندته اليمينية التوسعية، التي تبدأ بمحاولات حثيثة لترحيل من تبقى من الغزيين إلى مصر لضم القطاع إلى إسرائيل، وتوجيه فلسطينيي الضفة الغربية والقدس إلى الأردن، وقضم ما تبقّى من أراضي الضفة الغربية.
أي موجة هجرة من غرب النهر إلى شرقه، ستمسّ المعادلة الديمغرافية الحساسة للمكوّنين الرئيسيين: الأردنيون من أصول فلسطينية والشرق أردنيين، العمود الفقري التقليدي للعرش الهاشمي، وأي تنافر بين المكونين سيصب في مصلحة خيار التوطين أو قد يُحدث بلبلة شعبية.
ترامب لن يُوقف مخطط نتانياهو. فموقفه كان واضحاً بعد لقائهما في فلوريدا قبل أربعة شهور، في تحدٍّ سافر للإدارة الأميركية. وبعد اللقاء بأيام، أعلن ترامب أن مساحة إسرائيل صغيرة على الخارطة وعليه أن يفكر كيف يوسّعها، لكنه لم يحدد كيف، ومتى، وإلى أين ستتمدد، وهنا مربط فرس الصفقة الجديدة التي تشكل مصدر تهديد للأمن الوطني الأردني.
من المرجح أن تقوم إسرائيل بعملية تهجير قسري للفلسطينيين كخطوة أولى من مناطق “ج” إلى مناطق “ب” من ثم “أ”، والهدف من ذلك خلق حالة من الضغط السكاني والاقتصادي على البنى التحتية التابعة لمناطق سيطرة السلطة الفلسطينية، لافتعال أزمة لها وبالتالي انهيارها، ما يدفع الفلسطينيين إلى مغادرة مناطق السلطة نحو الأردن كهجرة طوعية، بحسب مسؤول مطّلع على الملف، وقد تستخدم إسرائيل قوانين متشددة، تسمح بإبعاد أهالي شبان شاركوا في عمليات ضد إسرائيل.
وهناك نحو 250.000 مواطن يحملون جوازات سفر أردنية دائمة، ويسكنون في الأراضي الفلسطينية، لن يستطيع الأردن التخلي عنهم قانوناً، في حال قرروا العبور إلى المملكة بسبب ضغوط إسرائيل.
يقول مسؤول أردني في لقاء مع “درج”، “أعتقد أن ترامب سيصر على خطته وعلى محاولة توسيع حلقة المطبّعين لتضم قطر والكويت وسلطنة عُمان ودولاً عربية جديدة، للانضمام إلى شرق أوسط جديد عماده السلام الاقتصادي والتنمية، لكن على مقاس ترامب ونتانياهو”. ويتابع: “ما يحدث يذكّر بمسرحية يكون فيها المنتج والمخرج واحداً، وكل ممثل في المنطقة يخرج عن النص يتم تأديبه”.
هذا قد يفسر التغيير الذي قام به نتانياهو عشية الانتخابات الأميركية، عندما أقال وزير دفاعه يوآف غالانت وعيّن يسرائيل كاتس مكانه وجدعون ساعر وزيراً للخارجية، ما يضمن استقرار الحكومة حتى انتهاء ولايتها أواخر 2026، ويمكّنه من إدارة الحرب على غزة ولبنان من دون معارضة.
أمام الخيارات الصعبة، يعمل صانع القرار الأردني بلا ضجيج لاستيعاب أبعادها وإعادة التموضع السياسي وبناء استراتيجيات وتحالفات جديدة، تمكّن المملكة من الانحناء أمام العاصفة السياسية التي ستواجهها خلال سنوات ترامب الأربع، لعبورها بأقل الأضرار الممكنة.
وقال مسؤول أردني آخر تحدث إلى “درج” بشرط عدم كشف هويته: “إن قدرة الأردن ملكاً وشعباً على التكيف السريع على المحك. ولا بد من الانخراط الإيجابي في كل الملفات لحماية مصالح الأردن الحيوية”. وبرأيه، “من لا يجلس على الطاولة لن يعرف قائمة الوجبات قيد الإعداد”.
التكيّف يتطلّب تحصين الجبهة الداخلية بمقاربات جديدة، وفصل تداخل السلطات الثلاث وتغيير الخطاب الرسمي والشعبي المتناقض حيال أميركا وإسرائيل، وبدء تنسيق إقليمي جديد عماده علاقات أكثر اتزاناً مع المحيط العربي، واستغلال وقوف الاتحاد الأوروبي وعدد كبير من دول العالم إلى جانب الأردن.
الأردن يعمل على ترطيب الأجواء مع المملكة العربية السعودية، التي ستصبح قريباً محجاً لقادة العرب كافة، بسبب العلاقات القوية بين ولي العهد محمد بن سلمان وترامب، وينأى بنفسه بهدوء وروية عن المنافسة الدائرة لسنوات بين محمد بن سلمان ومحمد بن زايد آل نهيان رئيس دولة الإمارات العربية المتحدة، حول من سيقود المنطقة المتحولة.
حاول الملك كثيراً الاقتراب من بن سلمان تماشياً مع موقع المملكة التقليدي، لكن لم تتطور العلاقة لأسباب عدة: الكيمياء مفقودة، وهناك قلق من أطماع سعودية في ملف القدس وإمكانية تدويل مسؤولية إدارة المقدسات الإسلامية.
لكن ولي العهد السعودي على علاقة جيدة بنظيره الأردني الحسين الذي زاره مؤخراً برفقة والده الملك، ويمكن أن يراهن الأردن على السعودية لحماية ظهره.
بحسب دبلوماسيين عرب وأجانب، لن توقّع الرياض معاهدة سلام مع إسرائيل، كما كان الوضع عليه قبل الحرب على غزة. فبعد الحرب، ربطت أي انخراط، بقيام دولة فلسطينية ووقف العدوان على القطاع. الأردن استدار صوب الإمارات لأنها الدولة الخليجية الوحيدة التي توفر دعماً مالياً للموازنة الأردنية، تليها الكويت.
بعد تسميته، قرر ولي العهد السعودي تغيير آلية صرف المساعدات للأردن، بتحويلها إلى مشاريع تنموية محددة تمس حياة الناس وتشجع العجلة الاقتصادية على الدوران. فيما كانت الأموال في السابق تُحوّل مباشرة إلى عمان.
اقتراب الأردن من الإمارات رسم حدوداً لعمان في التعامل مع إسرائيل كحليف رئيسي لأبو ظبي لا يمكن المس به، أو إطلاق تصريحات قاسية تُدين حرب الإبادة في غزة مثلاً، ليس هناك الكثير من الاستقلالية.
الملك الأردني كان من بين أوائل الزعماء العرب الذين تواصلوا مع ترامب لتهنئته بالفوز، وشدد على رغبته في تعزيز العلاقات الاستراتيجية بين البلدين لخدمة الأمن والاستقرار، وقد تتبع ذلك لقاءات في المستقبل القريب؛ إذا سمحت ظروف الطرفين، وقد يحتاج الشارع الأردني، بحسب مسؤول سابق، الى أن يمنح بعض المساحة للملك لكي يناور بأريحية في شرق أوسط جديد من دون أن تطاوله سهام التشكيك.
وقد يفرض فتح باب تعامل جيد مع الخارجية الأميركية، أن يضحي الملك بوزير خارجيته أيمن الصفدي، الذي بادر إلى إطلاق تصريحات نارية حيال الحرب في غزة ولبنان.
في عهده الأول، اعترف ترامب بالقدس عاصمة لإسرائيل، وبعدها أصدر أمره بنقل سفارة الولايات المتحدة من تل أبيب إلى القدس، ضارباً بكل القرارات الدولية الخاصة بوضع المدينة المقدسة عرض الحائط، وفي العام 2019 اعترف بسيادة إسرائيل على الجولان.
وترامب اليوم أقوى من ترامب الأول، وسيبدأ عهده الثاني معتمداً على فوزه الكاسح، وبغالبية في مجلس الشيوخ ومثلها في الحكومة الفيدرالية.
الكاتبة الاردنية رنا الصباغ