رم - الدكتور اسعد عبد الرحمن :
منذ السابع من أكتوبر 2023، وحتى السابع من سبتمبر 2024، كانت معنويات الفلسطينيين والعرب الآخرين والمسلمين وشرفاء العالم، في أوجها. غير أن الحال بدأ يتغير على نحو دراماتيكي متسارع مع نجاح «إسرائيل» في «حادث البيجر» وصولاً الى احتلال المواقع السورية الأخيرة في جبل الشيخ. وهذه الأيام، نلحظ هيمنة حالة من الإحباط الممزوج باليأس لدى المجاميع الأربعة آنفة الذكر. وهذه الحالة مفهومة لكن استمرارها (1) غير منطقي (2) بل مدمر.
أما لماذا ان الاستمرار فيها غير منطقي؛ فلأن هذه الحالة لا تستند الى أي سند واقعي علمي وبالذات في «حرب الوجود» التي نخوضها ونحن نجابه «حرب الوجود» التي تشنها «إسرائيل» علينا (بعبارات بنيامين نتنياهو وحكومته)!!! ذلك ان واقع حروب المقاومة (دفاعاً عن الوجود) يجب ان يستند علميا الى الحقائق المستخلصة تاريخيا. ورغم توفر عدد من الكتب والأبحاث (وبالذات في مجلة دراسات فلسطينية) بخصوص مفاهيم النصر والهزيمة عند حركات التحرر الوطني والمقاومة وتحديداً في حالات الاستعمار «الاستيطاني» والاحلالي؛ فانني وجدت ان ما جاء في مقالين للاخ والصديق اللماح علاء أبو زينة يفي بالغرض على نحو واضح ومباشر وبليغ: اذ شرح كيف انه في مثل هذه المواجهات مع قوى الاحتلال «يرتبط النصر بشكل أساسي بمفهوم البقاء والاستمرار وبالقدرة على إدامة النضال على المدى الطويل. والفكرة هي أن شعبًا يناضل من أجل حريته لا يمكن هزيمته طالما لم يخرج من الوجود ولم يستسلم"؛ وأنه «بمجرد إظهار صورة المقاومة ورفض الاستسلام، يتحدون شرعية مضطهديهم ويكسبون الدعم الدولي والمحلي»، علماً انه غالباً ما» يؤدي القمع الوحشي إلى فضح الوجه الحقيقي للاستعمار أمام العالم، وبالتالي إكساب قضية التحرر دعمًا دوليًا إضافيًا مثمرًا. وبهذا المعنى يُعيد المستعمَر تعريف النصر بعيدًا عن الحسابات المادية ليجعله انتصارًا أخلاقيًا واستراتيجيًا على المدى الأطول للصراع». أوليس هذا واقع الحال الآن مع شعوب العالم بعد ان انضمت اليهم شرائح واسعة من الجماهير والقيادات السياسية والفكرية والفنية البارزة؟
أما على الصعيد الفلسطيني الخاص فنحن نواجه حربا استعمارية «استيطانية» تستهدف إحلال «شعب» من اليهود الصهيونيين بدلاً من الشعب الأصلي الفلسطيني. وهذه الحرب وجودية تماماً، جوهرها قتل الفلسطيني (وقتل العربي الآخر لاحقا مع احتلال بعض من أراضيه كذلك هنا لا يجري القتل بالمعنى البيولوجي فحسب، وانما –بعبارات علاء- «بالموت الحيوي: «الحياد» بمعنى عدم القدرة على فعل شيء، أو الاقتناع بأنها ليس ثمة إمكانية ولا وسيلة لفعل شيء». وفي هذا السياق، لطالما وظفّت الحركة الصهيونية و"إسرائيل» مفاهيم وأدوات منتقاة لهذا «الموت الحيوي» قوامها: «القوة المطلقة» بما في ذلك اقتناء الأسلحة النووية، زائداً «الردع الحاسم»، علاوة على عمليات «كي الوعي» لتحقيق حالة من الشلل تدحر الفكر والفعل المقاوم عبر تقديم «نماذج» من نوع مجزرة دير ياسين+ مذبحة «صبرا وشتيلا»+ «نموذج الضاحية الجنوبية» في بيروت +«نموذج قطاع غزة» و«نموذج جنين ومخيمها»، على سبيل المثال لا الحصر. غير أن النصر في السياق الفلسطيني لا يقتصر على طرد المستعمر فحسب، بل يعني أيضًا الحفاظ على الوجود الوطني والهوية الثقافية في وجه الإبادة والإقصاء. وفي هذا النطاق-بعبارات ختامية من الكاتب أبو زينة- «تعني المقاومة عدم انتهاء الصراع، والعكس صحيح، فعدم المقاومة، بأي كلفة، يعني حسم الصراع لصالح مشروع الإحلال والخروج من التاريخ. والمقاومة تعني إضعاف المشروع الاستيطاني وجعله مكلفًا وغير مستدام».
أما لماذا تكون حالة الإحباط الممزوج باليأس... مدمرة، فلأن الروح المعنوية للشعوب هي أساس مركزي لفكر وممارسة المقاومة. وهنا نتذكر (موشيه ديان) أحد أبرز الجنرالات والسياسيين الإسرائيليين الذي عبّر عن أهمية الروح المعنوية بقوله: «ما من جنرال يهزم الفلسطينيين سوى جنرال اليأس"! ولذلك، لم يدخر الاحتلال وسيلة لتجسيد هذا «الجنرال"؛ من أعمال الإبادة في قطاع غزة، إلى العدوان و"الاستيطان» في الضفة الغربية، إلى سياسات الهدم في القدس، إلى التضييق في أراضي 1948؛ هذه المحاولات وغيرها هدفت لخلق شعب مستسلم بقوة اليأس غير أن الفلسطينيين، بعزيمتهم، أثبتوا أن كسر إرادتهم مهمة مستحيلة وها هم يقاتلون، جيلاً بعد جيل، منذ ما يزيد عن قرن كامل! ومثل هذه الحقيقة تؤكد مقولة «التفاؤل الاستراتيجي» في وجه كل «هزيمة تكتيكية» وهي مقولة نثمنها كونها أثبتت جدواها في تجارب الشعوب التي واكبت مقاومتنا (فيتنام، الجزائر مثلاً) وتلك التي سبقت، كفاحنا (حروب الافرنجة مثلاً). وعليه، يتوجب علينا دوماً إدراك أن الصراع العربي الفلسطيني-الصهيوني/الإسرائيلي ليس حدثًا مرحليًا بل هو حرب وجود ممتدة. وكما في تجارب الشعوب الأخرى، يتأرجح الخط البياني للنضال (في مراحله المتتابعة) بين انتصارات مؤقتة ونكسات عابرة الى حين حسم الحرب. وفي هذا النطاق، فإن «جنرال اليأس» ليس مجرد استعارة، بل هو سلاح نفسي خطير. إذا سيطر، فإنه يقضي على الأمل، ويحول النضال إلى استسلام. لكن الشعب الفلسطيني أثبت مرارًا، وعلى امتداد اكثر من قرن كامل، أنه قادر على التصدي لهذا «الجنرال». فرغم محاولات الاحتلال الحثيثة لفرض اليأس على الفلسطينيين (والعرب والمسلمين وشرفاء العالم ايضاً) من خلال الحصار، الهدم، التهجير، وقتل الأمل، فان هذه السياسات لم تنجح في تحقيق أهدافها. فالفلسطيني الذي يعيش تحت أعمال الإبادة والتطهير العرقي في قطاع غزة، ويواجه العدوان و"الاستيطان» في الضفة الغربية، ويعاني التمييز العنصري في أراضي 1948، ورغم سعي «إسرائيل» الدائم وبكل طاقاتها وامكانياتها لخلق نموذج فلسطيني يائس ومستسلم، إلا أن هذه المحاولات فشلت وستفشل في كسر صلابة الفلسطينيين في مقاومتهم للإحتلال.
وانني لأعجب كيف أن العرب وغير العرب من المؤمنين المسلمين او المسيحيين، وكذلك من القوميين العرب، ومن عموم المثقفين، الذين يدركون ان الحرب مع الصهيونيين هي (حرب وجود) كيف لهم المسارعة الى «الترحيب» بجنرال اليأس وبسيطرته على خلايا ادمغتهم عند اول او ثاني او ثالث نكسة او تقهقر! أوليس الامل سلاح الشعوب، خاصة تلك التي تخوض غمار حروب الوجود. ثم أوليست هذه الحروب اختياراً مستمراً للإرادة والصمود؟ وايضاً، ونحن نغوص في معارك حرب الوجود، أوليس النصر والهزيمة (التكتيكيان) مجرد محطات مؤقتة في مسيرات الشعوب المؤمنة بعدالة قضاياها؟! ثم أوليست «الأيام دول"؟ وأوليس دوام الحال من المحال... ويوم لك ويوم عليك؟ اذن، اركلوا «جنرال اليأس» بعيداً، وثقوا بتعاليم دينكم، وقوميتكم، وثقافتكم الوطنية، وبالتراث العالمي المقاوم. ــ الراي