رم - الدكتور ليث عبدالله القهيوي
تشهد غزة، منذ سنوات، حروبًا متتالية وتصعيدًا عسكريًا متواصلًا، لتصبح بؤرة للأزمات الإنسانية والسياسية في المنطقة ، وفي 16 يناير 2025، أعلن الشيخ محمد بن عبد الرحمن آل ثاني، رئيس مجلس الوزراء ووزير الخارجية القطري، التوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار بين حركة حماس وإسرائيل، بعد جهود وساطة عربية وأمريكية حثيثة، ويأتي هذا الإعلان ليمنح بصيص أمل لسكان القطاع المنهكين من وطأة الحصار والغارات، متطلّعين إلى مرحلة تهدئة حقيقية تضع حدًا لنزيف الدم المستمر. وبحسب البيان الصادر، مع بدء سريان الاتفاق أن يشمل تبادل الأسرى والمحتجزين في إطار حزمة بنود ترمي إلى تثبيت التهدئة على الأرض.
رغم الأمل الذي يحمله هذا الاتفاق، لم تتوقف الاعتداءات الإسرائيلية على القطاع بشكل كامل حتى لحظة الإعلان. ففي 14 يناير 2025، استهدفت غارة إسرائيلية منزلًا في خان يونس جنوبي قطاع غزة، ما أسفر عن استشهاد 12 فلسطينيًا، بينهم عشرة من عائلة واحدة. وفي اليوم نفسه، استشهد ثلاثة آخرون وأصيب عدد من المدنيين في غارة استهدفت خيمة للنازحين في دير البلح وسط القطاع و تعكس هذه الحوادث حجم المخاوف في الشارع الغزي بشأن إمكانية أن تصمد الهدنة المعلنة، وسط تساؤلات حول فاعلية الآليات الرقابية وصدق النوايا السياسية لدى الأطراف المنخرطة في الصراع.
على الجانب الإنساني، تتفاقم المعاناة في قطاع غزة بفعل الحصار المستمر، إذ يعاني أكثر من مليوني نسمة من نقص حاد في المواد الغذائية والأدوية ووقود تشغيل المستشفيات، فضلًا عن تدمير البنى التحتية وارتفاع معدلات البطالة ، وفي ضوء هذه الأوضاع، تتصاعد الدعوات الدولية والإقليمية لتسهيل إدخال المساعدات والمواد اللازمة لإعادة الإعمار، وفتح المعابر بشكل مستدام يضمن حركة الأفراد والبضائع. ولا يخفى أن أي تصعيد جديد حتى لو كان محدودًا يمكن أن يعيد الأوضاع إلى مربع الخطر، في ظل هشاشة الظروف الأمنية والاقتصادية والاجتماعية.
ومن اللافت في هذه المرحلة الدور الذي يلعبه الاردن ، حيث يؤكد الملك عبد الله الثاني، في كل مناسبة، تمسّك المملكة بدعم القضية الفلسطينية وحقوق الشعب الفلسطيني المشروعة. ويسلّط الملك الضوء على ضرورة تجنّب التصعيد، والعمل على تخفيف المعاناة الإنسانية، وصولًا إلى تحقيق تسوية عادلة وشاملة تضمن حل الدولتين وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة على خطوط الرابع من حزيران 1967 وعاصمتها القدس الشرقية. ويكتسب هذا الدور أهميّة خاصة بالنظر إلى الوصاية الهاشمية على المقدسات الإسلامية والمسيحية في القدس، وما تحمله هذه الوصاية من ثقل ديني وسياسي في معادلة الصراع ، وفي السياق نفسه، تواصل عمّان تنسيقها الإقليمي والدولي، ما يعطيها فرصةً إضافية لطرح رؤى ومبادرات تحظى باحترام واسع على الصعيد العربي والإسلامي.
ورغم هذا التحرك الدبلوماسي، يبقى الشك حاضرًا لدى كثير من الفلسطينيين الذين مرّوا بتجارب سابقة لوقف إطلاق النار، لم تدم طويلًا. فالشارع الغزي يُدرك أن البعدين السياسي والاقتصادي لأي اتفاق يحتاجان إلى مظلّة دولية واسعة وإرادة حقيقية على الأرض.
على الصعيد السياسي، يُنظر إلى اتفاق وقف إطلاق النار على أنه محطة يمكن البناء عليها للدفع نحو مفاوضات شاملة تُعالج القضايا الكبرى، وأبرزها وضع القدس واللاجئين والحدود والمستوطنات ، غير أنّ العديد من المراقبين يرون أن نجاح هذه الخطوة يتوقف على مدى التزام إسرائيل بوقف استهداف المدنيين ورفع الحصار عن القطاع، مقابل التزام الفصائل الفلسطينية بضبط النفس ومنع إطلاق الصواريخ. وفي هذا المسار يضطلع الاردن بدور محوري عبر التأكيد على الأولويات العربية والإسلامية، وحثّ المجتمع الدولي على اتخاذ مواقف صارمة تجاه أي انتهاكات تُجهض المساعي السلمية.
في المقابل، لا يزال جزء كبير من الرأي العام العربي والدولي متشككًا في إمكانيّة تحوّل وقف إطلاق النار المؤقت إلى هدنة طويلة الأمد، خصوصًا في ظل غياب حلول جذرية للمشكلات التي تُولّد التوترات الدائمة. فإعادة الإعمار في غزة قد تتعطل ما لم تتوافر ضمانات تُسهّل تدفق المساعدات ومواد البناء، وتحمي المشاريع التنموية من الاستهداف، كما أن أي تقدم ملموس على صعيد تحسين الوضع المعيشي والاقتصادي لسكان القطاع سيكون رهينًا بتعاون دولي وتمويل كافٍ، إلى جانب التزام إسرائيل بالاتفاق وتخفيف الإجراءات التعسفية.
ختامًا، يحمل وقف إطلاق النار الجديد آمالًا عريضة، لكنه لن يتجاوز حدود الاتفاقات البروتوكولية ما لم تتبعه خطوات عملية على الأرض، وسيكون لزامًا على الأطراف الدولية والإقليمية ممارسة ضغوط حقيقية تضمن حماية المدنيين وإزالة العقبات أمام وصول المساعدات والبدء بمشاريع إعادة الإعمار. وفي هذا السياق، يشكّل الدور الاردني في دعم القضية الفلسطينية والتأكيد على ضرورة الحل العادل والمستدام عنصرًا دافعًا قد يُسهِم في بلورة مسارات أرحب للحل السياسي، إن نجاح هذه الهدنة يبقى مرهونًا بقدرة الجميع على تجاوز الحسابات الضيقة، ووضع مصلحة ملايين الفلسطينيين الذين يرزحون تحت واقع إنساني مأساوي فوق كل اعتبار، وإذا تحققت تلك الشروط، فقد يصبح الهدوء الراهن أرضية صلبة لسلام طويل الأمد، ينهي دائرة العنف ويتيح لأهل غزة فرصة للعيش بكرامة وأمن.