رم - الدكتور ليث عبدالله القهيوي
في العقدين الأخيرين، تصاعد الاهتمام بدور الشباب في دول الشرق الأوسط بوصفهم فاعلين رئيسيين في الحياة السياسية والاجتماعية، نظرًا إلى شريحة سكانية كبيرة تمتلك من الطاقات والإمكانات ما يؤهلها للتأثير في مجريات الأحداث، ولم يكن هذا الدور مقتصرًا على التظاهر والتعبير عن الإحباط فحسب، بل اتجه العديد من الشباب إلى البحث عن مسارات أوسع للمشاركة في صنع القرار ورسم مستقبل بلدانهم، وفي ظل التحولات الإقليمية المتسارعة، بدا واضحًا أن الشباب يمتلكون وعيًا عميقًا بالتحديات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، ويملكون في الوقت ذاته قدرةً لافتة على ابتكار حلول جديدة تدعم الاستقرار والتنمية.
يُعزى هذا الوعي إلى جملة من العوامل التي أسهمت في تكوين شخصية شبابية ناقدة وطموحة، أهمها زيادة فرص التعليم وانتشار وسائل التواصل الاجتماعي، ما أتاح للشباب حرية أوسع في الاطلاع على تجارب دولية ونماذج ناجحة، ومكّنهم من بناء شبكات علاقات تتخطى الحدود الجغرافية. ورغم ذلك، يصطدم هذا الحراك الشبابي بعدد من العوائق، منها ارتفاع معدلات البطالة، وتركيز الأنظمة الاقتصادية على قطاعات تقليدية لا تفتح آفاقًا وظيفية مبتكرة، ووجود نخب سياسية واقتصادية تهيمن على عملية صنع القرار، فضلًا عن غياب آليات مؤسسية فعّالة لدمج الشباب في الإدارة العامة.
في الأردن، يمثل الشباب نسبة مهمة من السكان، ما يجعل دورهم أساسيًا في أي مشروع وطني يهدف إلى تحقيق التنمية والتحديث، وقد شهدت المملكة بعض الاحتجاجات الشبابية التي وإن لم تكن بنفس الحدة التي شهدتها بعض دول الجوار، فإنها عكست بوضوح مطالب واقعية تتصل بتحسين مستويات المعيشة، والحد من البطالة، وتعزيز الشفافية في مؤسسات الدولة. وقد استجابت الدولة لهذه المطالب بإطلاق عدد من المبادرات، كان أبرزها تشكيل اللجنة الملكية لتحديث المنظومة السياسية عام 2021، التي تضمّن عملها اقتراح تعديلات مهمة على القوانين الناظمة للحياة السياسية، بما في ذلك قانونا الانتخاب والأحزاب، إلى جانب توصيات لتعديل بعض مواد الدستور بما يتيح مساحة أوسع للشباب والمرأة في عملية صنع القرار.
في ظل هذه الإصلاحات، برزت محاولات لتعزيز دور الأحزاب السياسية وتشجيع الشباب على الانضمام إليها، مع ضمان وجود ضمانات قانونية تفتح المجال أمامهم للوصول إلى مواقع قيادية في تلك الأحزاب. وفي الوقت ذاته، أطلقت الحكومة الأردنية الاستراتيجية الوطنية للشباب، التي تهدف إلى خلق مناخ داعم يساعد الشباب على تطوير مهاراتهم وصقل خبراتهم في مجالات متعددة، سواء في ريادة الأعمال أو المشاركة المجتمعية. كما ظهرت منصات مثل المجالس الشبابية والبرلمانات المصغرة التي تتيح للشباب التعبير عن آرائهم وتوصيل أفكارهم وتطلعاتهم إلى صانعي القرار. ومع أهمية هذه الخطوات، فإن العديد من التحديات ما زال قائمًا، مثل محدودية فرص التمويل، وغياب شبكات حاضنة متكاملة لريادة الأعمال، وضعف الثقة المتبادلة بين فئة من الشباب والمؤسسات الرسمية .
تأتي أهمية تمكين الشباب في الأردن أيضًا من دورهم في تعزيز الاستقرار الإقليمي، نظرًا إلى موقع المملكة الجغرافي الحساس، وتأثرها بأزمات دول الجوار، ولا سيما قضايا اللجوء. فقد نجحت مبادرات شبابية عدة في تقريب المسافات بين اللاجئين والمجتمعات المضيفة، وأسهمت في إطلاق مشروعات تنموية وخدمية تساعد الطرفين على تجاوز الأعباء الاجتماعية والاقتصادية، وتعكس هذه الجهود حجم الإحساس بالمسؤولية لدى جيل شبابي يدرك الترابط العميق بين الاستقرار المحلي والإقليمي، خصوصًا عندما يتعلّق الأمر بمعالجة مشاكل تتطلب تكاتف المجتمع المدني مع القطاعين العام والخاص.
من منظور استراتيجي، لا يمكن الاكتفاء بإجراءات جزئية لتحقيق دمج حقيقي للشباب في عملية صنع القرار. فالانتقال إلى مرحلة أكثر استقرارًا يتطلب تحركًا على جبهات عدة، من أبرزها استكمال تطبيق الإصلاحات السياسية التي أقرّتها اللجنة الملكية لتحديث المنظومة السياسية، ومواصلة تطوير التشريعات التي تحفّز مشاركة الشباب الفاعلة في المشهد الحزبي والنيابي، كما تتطلب المرحلة المقبلة توجيه المزيد من الاستثمارات إلى التعليم والتدريب المهني لمواءمة مخرجات المؤسسات التعليمية مع احتياجات سوق العمل، إضافةً إلى تأسيس ثقافة ريادة أعمال تهتم بالتكنولوجيا وتولي الأولوية للابتكار واستراتيجيات المستقبل ، ولا يقلّ عن ذلك أهمية تعزيز ثقافة الحوار والانفتاح لدى جميع الأطراف السياسية، بما فيها الأحزاب التقليدية، وتشجيعها على الاستماع إلى رؤى الشباب والاستفادة من مهاراتهم.
إنّ واقع الشرق الأوسط يفرض تبني نهج شامل يستفيد من طاقات الشباب باعتبارهم محركات للتغيير الإيجابي. ويبدو الأردن حالة واعدة في هذا السياق، إذ يمتلك مقومات نجاح مدعومة بأطر قانونية حديثة وإصلاحات سياسية جدية، إلى جانب توفّر طاقات بشرية شابة تتمتع بوعي مجتمعي وتطلع إلى مستقبل أفضل، وفي حال تضافرت جهود القطاعات الحكومية والخاصة والمدنية لتنفيذ الإصلاحات وضمان استمراريتها، فإن الشباب الأردني سيكون قادرًا على أن يتحول إلى ركيزة للاستقرار، لا داخل المملكة فحسب، بل على صعيد المنطقة بأسرها، ولا شك في أن التحديات ستظل موجودة، لكن تجاوزها يستلزم عزيمة جماعية ورؤية بعيدة المدى، تدمج الشباب في مسارات التنمية بشكل فعلي، وتتيح لهم الفرصة للمشاركة في صياغة القرارات التي تمسّ مستقبلهم ومستقبل أوطانهم.