الأردن وإرهاصات التهجير .. موقف ثابت ودبلوماسية مدافعة عن الثوابت


رم - الدكتور ليث عبدالله القهيوي


يتجدد الحديث في الأوساط السياسية والإعلامية عن سيناريوهات تهجير السكان في قطاع غزة باتجاه الأراضي الأردنية مع تصاعد التوتر الإقليمي والاشتباكات المستمرة، وعلى الرغم من تنامي الحديث وتكرار الإشارات المباشرة إلى هذا الموضوع من جهات خارجية، فإن الموقف الأردني الرسمي والشعبي ظل واضحًا وحاسمًا في رفضه لأي محاولة لفرض هذا السيناريو على المملكة، إذ يعتبر الأردن أنّ تمرير أي خطة لتهجير جماعي ينطوي على مخاطر استراتيجية تمس السيادة الأردنية والهوية الوطنية، إضافة إلى كونه تكريسًا للاحتلال وانتهاكًا لحقوق الشعب الفلسطيني الثابتة.

لقد أبدى الأردن رفضه المتكرر لمشاريع توطين سابقة، وحرص في مختلف المحافل الدولية على التشديد على ضرورة إيجاد حل عادل وشامل للقضية الفلسطينية قائم على قيام دولة فلسطينية مستقلة وحق العودة للاجئين، ويستند الموقف الأردني الرافض لتهجير أهالي غزة على اعتبارات عدة، أبرزها أنّ الأردن تحمل على مدى عقود أعباءً إنسانية واقتصادية نتيجة استضافته لأعداد كبيرة من اللاجئين من دول الجوار، ما جعل موارد المملكة وبناها التحتية في وضع صعب، كما أنّ أي محاولة لفرض توطين جديد من دون حل سياسي شامل من شأنه أن يخلق وضعًا غير مستقر، ويهدد بتداعيات طويلة الأمد على بنية المجتمع الأردني وأمنه القومي .

في مواجهة هذه الضغوط المتجددة، يملك الأردن أوراقًا سياسية ودبلوماسية يمكنه التلويح بها دفاعًا عن موقفه الرافض، فالمملكة تشكل عنصر استقرار مهم في المنطقة، وتحظى بعلاقات تاريخية وعميقة مع الدول الكبرى، إضافة إلى شبكة تحالفات إقليمية ودولية تدرك أهمية الدور الأردني في حفظ التوازن. كذلك، يدرك المجتمع الدولي أنّ أي زعزعة للاستقرار الأردني تعني تصاعد حالة الفوضى في الإقليم، وهذا ما لا يرغب به الأوروبيون والأمريكيون، بالنظر إلى حساسيات المنطقة وتشابك الأزمات فيها، ومن هنا، يبقى التنسيق الأمني والحدودي الذي تتميز به المملكة إحدى أهم الأوراق، إذ لا ترغب أي جهة دولية بمزيد من الفوضى والانفلات على حدود إسرائيل أو في مناطق قريبة من مناطق الأزمات المشتعلة في المنطقة.

وعلى صعيد متصل، وضمن الجهود السياسية لجلالة الملك وايصال رسائل سياسية عالمية واضحة وقوية شهد الأردن يوم أمس دعمًا أوروبيًا جديدًا عبّرت عنه تصريحات صادرة عن مسؤولين في الاتحاد الأوروبي ، تؤكد حرصهم على استقرار المملكة واستعدادهم لتقديم مساعدات إضافية لدعم جهودها في استضافة اللاجئين والإصلاح الاقتصادي ، ورغم أنّ هذا الدعم يُعد إشارة إيجابية إلى فهم أوروبا لحساسية وضع الأردن، إلا أنّه يظل مرهونًا بسياق سياسي واقتصادي أوسع، وهو غير كافٍ لمعالجة جذور مشكلات الأردن الاقتصادية ومخاوفه من سيناريوهات التهجير، فما يطلبه الأردن في هذه المرحلة ليس مجرد منح مالية، بل ضمانات سياسية حقيقية تحافظ على التركيبة السكانية للمملكة وتمنع استغلال ملف اللاجئين كورقة ضغط لتصفية القضية الفلسطينية.

في المقابل، تبرز محاولات الإدارة الأمريكية بقيادة دونالد ترامب التي مارست ضغوطًا على الأردن في سياق ما عُرف بـ”صفقة القرن” سابقا ، فإن التصريحات حول “إصرار ترامب على الضغط على الأردن” ما زالت حاضرة وبشكل مباشر؛ حيث يراها البعض جزءًا من إرث تشكلت ملامحه من سياسات ضغط أوسع على دول المنطقة، فقد سعت تلك الضغوط إلى فرض تصوّرات لتسوية الصراع الفلسطيني الإسرائيلي بمعزل عن الحقوق التاريخية للفلسطينيين، وبلا اعتبار لتأثير ذلك على الأوضاع الداخلية للأردن أو بقية دول المنطقة.

من الواضح أنّ الأردن لن يقبل بأي حلول يُنظر إليها باعتبارها التفافًا على الثوابت الوطنية والقومية، أو تحول المملكة إلى “وطن بديل” لأي جهات أخرى، ويعي صانع القرار الأردني أنّ العلاقات السياسية مع القوى الدولية يجب أن تكون متوازنة، قائمة على المصالح المتبادلة والاعتراف بالأولويات الأردنية، كما يُدرك الأوروبيون، إلى جانب بعض الأصوات الأمريكية العقلانية، ضرورة عدم زج الأردن في صراعات لا تخدم الاستقرار على المدى البعيد.

وهكذا، يتأكد مجددًا أنّ المملكة، برغم ما تعانيه من تحديات اقتصادية وعبء اللاجئين، تملك موقفًا مصيريًا واضحًا في رفض التهجير، وتستمر الدبلوماسية الأردنية في التحرك الدولي والإقليمي لإيصال رسالة حازمة بأن حلول القضية الفلسطينية يجب أن تبقى محصورة ضمن الإطار القانوني الدولي وبما يضمن حق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره، ورغم أن الضغوط لن تتوقف، فإن صمود الأردن في هذا الملف الحساس يؤكد أنه ما زال قادرًا على المناورة والدفاع عن ثوابته مهما بدت الظروف معقدة.



عدد المشاهدات : (4289)

تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لن ينشر أي تعليق يتضمن اسماء اية شخصية او يتناول اثارة للنعرات الطائفية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار وكالة رم للأنباء - أخبار عاجلة، آخر الأخبار، صور وفيدوهات للحدث. علما ان التعليقات تعبر عن راي اصحابها فقط.
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :