رم - الدكتور ليث عبدالله القهيوي
يشهد الأردن حالة من الحراك السياسي المتجدد، حيث برزت الحاجة الملحّة لتحديث المنظومة السياسية كاستجابة لعوامل داخلية وخارجية على حدٍّ سواء، وتمثّل هذه العوامل تحديات متعددة تتراوح بين التحولات الديموغرافية والنمو الاقتصادي المتباطئ والضغوط الإقليمية التي تفرض نفسها على صانع القرار. وفي خضم هذه التحديات، تبدو الأحزاب السياسية أحد أبرز مرتكزات البناء الديمقراطي، إذ يُعوّل عليها للإسهام في خلق فضاء أرحب للمشاركة الجماهيرية ولصياغة رؤى مستقبلية تخدم المصلحة الوطنية وتعزّز الحضور الأردني الخارجي. ورغم المحاولات الحثيثة لتفعيل دورها، إلا أنها ما تزال تصطدم بعقبات متجذرة في بنية الحياة الحزبية، بدءًا من أزمة الثقة وصولًا إلى سيطرة نخب تقليدية وقدرة محدودة على استقطاب الشباب الطموح.
يُعدّ انخراط الشباب في العمل الحزبي جوهر عملية الإصلاح المنشود، نظرًا لما يمتلكونه من طاقات وإمكانات إبداعية، بيد أنّ الواقع يشير إلى مفارقة واضحة: فالشعارات الرنانة التي تُرفع لدعم الشباب تتكرّر في مواسم انتخابية أو منابر إعلامية او جلسات حزبية استقطابية ، لكنها غالبًا لا تُترجَم إلى أفعال حقيقية داخل الأحزاب. وبدلًا من تمكين الكفاءات الشابة وتوفير مساحة تتيح لهم التأثير في مسارات اتخاذ القرار، يُعاد تدوير بعض الشخصيات التي قد لا تملك في جُعبتها سوى نفوذ مالي أو علاقات نافذة مرتبط بمصالح شخصية ، ولعلّ هذا الواقع يفسّر تزايد حالة الإحباط لدى فئة عمرية هي الأكثر تأثرًا بالتحولات الاجتماعية والاقتصادية، ما يؤدي إلى نفور شرائح واسعة من الانخراط في الأحزاب التقليدية.
على الرغم من ذلك، لا يمكن إنكار وجود رغبة سياسية عامة لتعزيز دور الأحزاب وإعطاء العملية الديمقراطية دفعة ضرورية، فقد شُكّلت لجان وطنية وقدّمت توصيات لإصلاح القوانين الناظمة للعمل الحزبي والانتخابي، ما يُعدّ خطوة إيجابية إذا ما قورنت بالتجارب السابقة. ومع ذلك، يبقى التنفيذ هو الاختبار الأهم، إذ إنّ مجرد إقرار قوانين عصرية لا يكفي بدون تهيئة بيئة سياسية واجتماعية قادرة على استيعاب هذه القوانين، ولا شكّ أنّ الاختلاف الحقيقي يكمن في مدى استعداد الأحزاب لتطوير برامج محدّدة وخطط عمل واقعية، تتيح لها الانتقال من مرحلة “الشعارات” إلى مرحلة “الإنجاز”.
من المنظور الاستراتيجي، يرتبط نجاح تحديث المنظومة السياسية في الداخل بتعزيز الصورة الإيجابية للأردن على الساحة الخارجية، فالدول التي تشهد حياة حزبية نشطة ومؤسسية قادرة على بلورة رؤى أكثر توازنًا في إدارة ملفاتها الخارجية، سواء تعلق الأمر بالقضية الفلسطينية أو بالأزمات الإقليمية المتوالدة، كما أنّ الأحزاب البرامجية بإمكانها أن توفّر للدولة الأردنية “قوة ناعمة” موازية للدبلوماسية الرسمية، عبر قنوات اتصالية متنوعة وتبادلات حزبية مع دول أخرى، بما يرسّخ مكانة المملكة ويدعم مواقفها.
ومن زاوية أخرى، يتطلب ترسيخ الأحزاب المؤثرة إعادة النظر في آليات التمويل والرقابة لضمان نزاهة العملية السياسية وحيادية القرارات الداخلية، فحين تتعزّز الشفافية المالية وتخضع الممارسات للضوابط القانونية، يصبح بمقدور الأحزاب الالتفات إلى بناء الكفاءات وصياغة الأفكار البنّاءة بدلاً من انشغالها في الصراعات المرتبطة بالمصالح الضيقة ، كما أنّ معالجة أزمة الثقة بين المواطنين والأحزاب تستلزم تبنّي سياسات تواصل حقيقية، وإشراك الجمهور في وضع البرامج وتقييمها، بحيث يشعر الفرد أنّ صوته مسموع وأنّ بإمكانه التأثير في صنع مستقبل البلاد.
وفي استشراف مستقبل المشهد الحزبي ضمن حالة الفوضى الحزبية الراهنة ، يُرجَّح أن تشهد الساحة السياسية عمليات اعادة هيكلة من خلال البدء بخطوات الاندماج بين أحزاب متقاربة فكريًا بهدف تشكيل كيانات أكبر وأكثر قدرة على المنافسة والتأثير. وقد تقود هذه الاندماجات إلى حالة من الفرز الإيجابي، تُبرز القوى الجادة القادرة على تقديم بدائل للتحديات الاقتصادية والاجتماعية ، وفي حال أسفر ذلك عن بلورة تيارات قوية تضم وجوهًا شبابية متمكّنة، فقد نشهد طفرة في الفاعلية الحزبية، تتجلّى في ارتفاع نسب المشاركة وتراجع حالة العزوف .
إنّ تحقيق هذه الرؤية ليس بالمهمة السهلة، لكنه شرط لا غنى عنه إذا ما أراد الأردن الحفاظ على استقراره وتعزيز دوره الإقليمي في عالم سريع التحولات. فإطلاق طاقات الشباب من جهة، وتطوير بنى حزبية حديثة وذات مصداقية من جهة ثانية، سيمكّنان الدولة من مواجهة التحديات بخطاب وطني موحّد ورؤية بعيدة المدى. وفي سياق تتعاظم فيه التحديات الخارجية، تظلّ حيوية المشهد السياسي الداخلي ركيزة أساسية تضمن بقاء الأردن قادرًا على التكيّف ومواصلة مسيرته نحو المستقبل.