رم - الدكتور لؤي بواعنة
كل مذكرة من المذكرات تحمل لونا معينا يعكس صاحبه ومرحلته وشخوصه.فهناك اللون السياسي الكامل وهناك اللون الحزبي وهناك العسكري،هناك الثوري وهناك الانفعالي السياسي الذي يتعمد النقد بعد خروجه من السلطة وإنتهاء بريقها.أماعندما تقرأ مذكرات طبيب العيون الدكتورممدوح العبادي بصراحته وشجاعته فقلما تجد لونا طبيا فيها،إلا في مرحلة دراسته الجامعية الأولى في إسطنبول ثم مع بدء العمل في مأدبا ثم الزرقاء مرورا بانتخابه نقيبا للأطباءلأكثرمن دورة،والتي جسّد خلالها الرجل العصامي المنفتح على الجميع الوطني الحريص على المهنة وأعضاءها،ولكنك فيما بعد وخلالها تنفتح شهيتك على كل ما هوسياسي وبرلماني وتنموي ومهني وعروبي ونضالي من حياته ومذكراته.حيث تجد في مذكراته ألوانا أخرى مثل اللون النقابي والحزبي والتنويري والوطني مثل خوضه انتخابات النقابه ودعمه إخواننا الفلسطينيين عندما قاموا بأنتفاضتهم عام 1987 بترأسه اللجنة الشعبية لدعمها ووجوده في المجلس الوطني الاستشاري وصولا لنجاح باهر في انتخابات عام 2003وما بعدها،وغيرها .فأنت أمام مذكرات تحمل فسيفساء جميله معبرة وواقعية وهادفة في الوقت نفسه. ففي كل قصة يعرضها العبادي تجد صورة جميلة،إما وفاء لصديق أوتحقيقا لرغبه أوأمنية أوهدف أو مساعدة لمظلوم أو إنجازا وطنيا أو إصرارعلى مبدأ لعدم مخالفة القانون كما حدث مع أحد مراجعيه من دارالمعشر،ورغم بحثه ووصوله لعدد من المسؤولين للتوسط له بمسالة متعلقة بترخيص مخالف للقانون إلا أنه عاد كما جاء لصرامة أبو صالح .وفي مجمل تلك الصوروالمشاهد تجد نفسك أمام بانوراما فريدة وذاكرة أردنية تاريخية وسياسية ونقابية وثقافية وتنموية وطبية وحزبيه واجتماعية للأردن وأهله وقيادته.
تكشف مذكرات طبيب العيون ممدوح العبادي عن رؤية ثاقبة لكل مكان وموقع بدءا من عمان مرورا بالأردن وشخصياتها وثقافتها وتراثها ومؤسساتها ولجانها .فقد جاور الكثيرين وزامل الكثيرين وخدم الكثيرين وناكفه الكثيرون،وأعجب بمهنيته ومواقفه الكثيرون ولكنه واصل حتى مبتغاه دون كلل أوملل. إن مذكرات الدكتور ممدوح ذالك الطبيب العبادي اللامع في طب العيون في الزرقاء،لا تقتصرعلى تخصصه كما قال له مضر بدران ذات يوم، بل تمتد لتجمع الخبرات تلو الخبرات،والتي دللت في النهاية على مهنية ووطنية واضحتين،وزادهما ثقة جلالة الملك حسين بن طلال به حتى أنه قال له في مناسبة عمانية في المركز الثقافي بعد توجيه ابتسامة له : " اعتزازي فيك ليس له حد "، فكان تطييبا لخاطره خاصة بعد كل الشائعات التي قيلت عنه بعد صنعه تمثالا للملك،ورغبة جلالة الملك حسين بإزالة ذلك التمثال.
يمثل العبادي طرازا فريدا من السياسيين الأردنيين يجمع بين الذكاء السياسي والجهد الوطني المتنوع بين الطب والعمل الاجتماعي والحزبي والنقابي والعشائري.فعندما تقرأ مذكرات أبو صالح تجد نفسك أمام كاريزما جامعه واهم ما به إصراره على النجاح والتحدي أكثرمن غيره وجرأته وشجاعته.فلم تحركه رافعة للأعلى كغيره من السياسيين،إنما حرّكه علمه وذكاءه وقدرته على التواصل مع الناس وطموحه وبيئته العمانية الفسيفسائية وفقراء الزرقاء من بعدهم .فعندما احتاج أن يذهب للدراسه لتركيا لم يكن مع والده ما يعطيه ما يكفيه حتى جاءت تلك الموريتانية بنخوتها ،الحجه فلحة ووهبته عصمليتها الذهبية التي تخبئها في برميل طحين بيتها لوقت الضيق،ومن هنا كانت البداية .
من يتمعن في رحلة الكفاح التي قضاها العبادي منذ ولادته حتى آخر منصب شغله يدرك أن الرجل من الناس الذين كانوا يتقنون قول كلمة " لأ " في وجه كل ما يخالف القانون والتعليمات والمبادىء بدءا من المواطن العادي وانتهاء بأعلى السلطات حتى لأصدقائه والمقربين منه.وليس أدل على ذلك انزعاجه من أحد الشخصيات الأمنية المعروفة عندما طلب منه توسعة شارع متضمنا إزلة بعض آثارعمان،حيث عالج الأمربحكمة فنفذ المطلوب وحل المشكلة وحافظ على تراث عمان الذي لا يقدر بثمن . والأجمل بأبي صالح أنه كثيرا ما يقول نعم عندما يرى فيها مصلحة أردنية وعمانية .فقال نعم عندما صمم على إنجازمشروع " شارع الأردن "،رغم التحديات والعقبات الجسيمة عندما عوّض أكثرمن ألف صاحب منزل غير نظامي ليشق شارع الأردن الذي يعتبر شارعا حيويا لعمان ومدن الشمال قاطبة ، فعوّض الأهالي بشكل غير قانوني ووشي به لديوان المحاسبة،ولكنه صمم على عمله ليخدم عمان.وقال نعم لإنشاء مركزثقافي للأطفال تبرعت به أحدى الفضليات من عائلة منكوالشهيرة،ليخدم اطفال الأردن. وقد تركت أمانة العاصمة في نفسه أثرا كبيرا،رغم أنه عندما عرضت عليه قال :" شو بفهمني بالزفتة"، ولكن العبرة في الخواتيم،فقد أصبح العمانيون يشيرون عليه بالبنان،كما تنبأت له والدته له في صغره، فقد بنى مبنى جديد لأمانة عمان يليق بها،وبنى الجسوروالأنفاق حتى أصبحت سمة من سمات عمان،فمكث أمينا لعمان ( 1993-1998 ). يجوب شوارعها وأزقتها ويأكل مع عمالها حتى أرخت عمان جدائلها فوق الكتفين .وفوق ذلك كله فقد نال ثقة الحسين بن طلال رحمه الله،لكنه كان يرى في خروجها منها أمرا غير مقبولا دون مقدمات .
نشأ فقيرا ولكنه كان مثقفا منذ طفولته،حتى أنه كان عاجزا عن شراء أحدى الكتب التي استهوته ولكنه تمكن من شراءه- في النهاية بعد شهرمن التقتيرعلى نفسه - بستة قروش ونصف من مصروفه وبمساعدة جدته،كما كان مشاكسا،لكنه أصبح يشارله بالبنان فهوعمدة عمان الذي بنى أنفاقها وجسورها ومعظم شوارعها ومراكزها الثقافية.أنه الرجل المخضرم وصاحب أكبر شبكة علاقات مع الناس. عندنا تقرأ مذكرات ممدوح العبادي تتعلم منه الكثير.وفي مقدمتها التحدي لصنع الأفضل،وهذا ما صنعه ممدوح العبادي في كل مواقعه منذ تبوأ منصب نقيب الأطباء مرورا بالنيابة ثم الوزارة .
اعتقد أن ممدوح العبادي بدأ حياته العملية من مواقف رجولية أو شجاعة ذكية وقد تسمى بالثورية أيضا حينما قام بتمرده على النقل التعسفي الذي مارسه وزيرالصحة في ذلك الوقت لنقل مكان عمله لإربد،لأنه قاد اعتصاما للعبابيد مطالبا ان يكون لهم عين في مجلس الاعيان الأخير،الأمرالذي أعتبره تصفية حسابات، فقررعلى أثرها الاستقالة وفتح عيادة خاصة له في الزرقاء، ومن هناك كانت البدايه.لم يكن يوما إلا نصيرا للحق وضدالظلم .فقد دافع عن أطباء الإقامة عام 1991الذين يدرسون بمستشفى الجامعة الأردنية ( وعددهم 80-100) طبيب عندما اقتنع بعدالة مطلبهم بعدم تحميلهم ثمن طعامهم وشرابهم بتواصله مع رئيس الجامعة وعندما هدد بالأضراب،أتصل به وزير الداخلية المرحوم سالم مساعدة ووعده بالحل وبعد يومين سارت الأمورعلى ما يرام ،وأقربأن مطالبهم مشروعة فنالوا بشجاعة نقيبهم .وكثيرا ما يصف أبو صالح نفسه بأنه كثير الكلام كوالدته رحمها الله،لكنه كثيرالفعل.فقدعارك وخالط واقتحم الصعاب جريئا في كل مواقفها إن رأى ذلك ضروريا،واستفاد من تجارب دول العالم في بناء المدن وتطويرها ،وكون صداقات مع أطباء وساسة وحزبيون من مختلف المشارب شيوعيون وبعثيون وقوميون وديمقراطيون ومستقلون وإخوان .
من يقرأ مذكرات الدكتورممدوح العبادي يجد فيها سقفا عاليا من الوضوح والنقد في الوقت نفسه لبعض مراحل حياته السياسية والمواقع التي شغلها قلما تجدها في مذكرات أخرى إلاعند دولة طاهر المصري أحيانا وربما كان المصري اكثرنقدا،مما يضفي على الأثنين توجيه رسائل سياسية مبطلنة،وخفية بعدم الرضى عن جوانب معينة من تاريخ عملهم السياسي مع شخصيات سياسية معينة ولكن هذا ليس بالضرورة أن يكون دقيقا بصورته الكاملة من وجهة نظرآخرين مخالفين لهم،وهذا حال السياسيين ربما الذين بعد خروجهم من السلطة يبدأون بالنقد قد يكونوا محقين في جوانب وغيرمحقين ربما في جوانب أخرى،لكن برأيهم تبقى هي الحقيقة كما سماها المصري بالحقيقة بيضاء،في حين أطلق ممدوح العبادي على نفسه السياسي الأمين. وقد كان أمينا على عمان وأهلها وأزقتها ومتاحفها وأطباء الأردن زملاءه في المهنة وأمينا وصادقا مع أبناء دائرته الثالثة الذين أوصلوه للبرلمان،ووطنه الذي احتضنه فكان أمينا في قراراته ومواقفه فهوأمينا في جوانب عدة فاستحق لقب الأمبن . فكان أؤلئك كلهم موضع ثقته واحترامه لما لمذكراتهم من قيمة تاريخية وسياسية ومن حقهم العتب على من زاملوهم أواتهموهم أوأقالوهم من مناصبهم،ولكن تبقى هذه المسألة في النهاية قضية نسبية بين السياسيين ولا اقصد شخصا بعينه بقدر ما هي بشكلها العام .
لم يكن معالي أبو صالح بيرقراطيا في يوم من الأيام كما يفيد في مذكراته،ولم يعرف المستحيل البتة،فعندما دخل وزارة الصحة وزيرا لأول مرة أخبره أحد المسؤولين بالوزارة بنقص مادة الصوديوم الضرورية للعمليات مما يعني توقفها،إلا لعمليات الطواريء،فما كان منه إلا أن تواصل مع وزيرالصحة السوري طالبا منه المساعدة ،فحصل عليها خلال يومين.كما بدا واضحا اثناء عمله بوزارته انه يسعى لتطويريها مهما كان الثمن فكان ديناميكيا ،جريئا في مقابلة المسؤولين من أجل المصلحة العامة مما أكسبه احتراما كبيرا عند كل المسؤولين،فعندما رأى أن من الضروي تحويل مستشفى ماركا العسكري لمستشفى مختص بالعيون والأنف والأذن والحنجرة،خاطب رئيس الأركان المشيرفتحي أبو طالب لأخذ موعد وعندما قابله تفاجأ أبو طالب من مطلبه لظنه أن جاء يطلب واسطة لأحدهم ،فما كان من أبو طالب إلا أن أبدى سرورا وقال له أنا جاهز .
لم تخل مسيرة العبادي العملية من مناكفات الآخرين عندما كان أمينا للعاصمة وخاصة عند مجيء حكومة عبد الكريم الكباريتي،الذي كانت علاقته به وطيدة جدا، لكنه لاحظ تغيرّها بعد أن أصبح الكباريتي رئيسا، فكثيرا ماتحدث العبادي بمرارة حيث المكائد من قبل بعض أصحاب القرارات كنوع من تصفية الحسابات،ولكنه كان صامدا كالطود لقوله :" لم أسلم من المكائد ومحاولات التشويش،بينما بقيت عيني تطيب ناظرة إلى الأمام باتجاه تطويرالعمل وأستدير للخلف كلما حاول احدهم الغدر" .
لم يخف معالي ممدوح العبادي مشاعره واحاسيه عن الحكومات التي كان جزءا منها ،ففي الوقت الذي امتدح حكومة طاهرالمصري كثيرا ووفوق التصوّر، وأقر بقراراتها وديمقراطيتها لكونها نتاج مرحلة هامة بعد هبة نيسان،نجده عايش حكومة الملقي بشيء من شد الأعصاب والبيرقراطية في القرارات والعمل ،ومرجع ومرد ذلك بنظره بحكم الظروف والنتاجات وتغيّر الأحوال،لا بحكم الرئيس الملقي الذي يكن له كل الأحترام . ومع ذلك فقد أبدى انزعاجا واضحا من تلك المرحلة وقدّم استقالته قبل إقالة الحكومة على ضوء المظاهرات المعروفة في تلك الفترة .
رغم تمرس معالي أبو صالح في العمل النيابي والحكومي،إلا أنه حمل في جعبته في نهاية مشواره آلاما وأحزانا ونقدا واضحا،وكأن لسان حال يقول" يا أبو زيد كانك ما غزيت "،يا ريتني بقيت في رأس العين. فقد بّين صفاته ودوره كنائب في البرلمان الأردني عن الدائرة الثالثة وعن الوطن برمته، فقام بكل ذلك خير قيام رقابة وتشريعا ،ولكن خرج من النيابة متشائما بقوله : " بعد كل هذه السنين،أجزم أني كنت نائبا منتجا وجريئا،وعملت بصدق ونزاهة،وما زالت راضياعن أدائي الرقابي والتشريعي وتلك عموما صفات غير مرغوبة في البرلمان الأردني مرحليا " .وهذا يجعل من رأيه وكأنه دقا لناقوس الخطر في أداءها وشفافيتها وحقيقتها.فظاهر العمل النيابي شيء وباطنه شيء آخر،وكأنه يرى في العمل النيابي شكلا لامضمونا. في حين يعتز بالعمل النقابي خدمة للناس بقوله : " تعلمت أن العمل النقابي تطوعي والبرلماني يعطيك مالاوشهرة وراتبا ".
واختتمت مذكرات ابو صالح بشيء من الآمال والطموحات للأردن وأهله،من استغلال للسياحة وتطوير العمل الحزبي من خلال وجود قواعد شعبية ،ورص الصفوف ضد الليكود الإسرائيلي حماية للوطن ووحدته،واتفق معه في كل ما ذهب إليه،ولكني اختلفت معه بإتهامه النظام بتهميش مكون أساسي في الوطن،وهوالمعروف للقاصي والداني. فكيف له ذلك سياسيا وقد كان جزءا من مطبخه السياسي لمدة تزيد عن 35 عاما في شتى حقول المسؤولية .وسواء اتفقنا أواختلفنا مع الدكتور ممدوح العبادي تبقى مذكراته كنزا ثمنيا لا يقدر بثمن للأردن ومؤسساته ونظامه وشخوصه وتاريخه وحاضره ومستقبله تستنير به الأجيال الحاضرة واللاحقة مسجلا بذلك بصمته الواضحة الناصعة مدى الدهر .
*أكاديمي أردني /جامعة البلقاء التطبيقية