الحياري تكتب: تغييرٌ جذريّ أم موجة عابرة؟


رم - د. روان سليمان الحياري



تشهد أوروبا في السنوات الأخيرة تحولًا سياسيًا لافتًا يتمثل في صعود الأحزاب اليمينية و تراجعاً للقوى اليسارية التقليدية. يأتي هذا الصعود في سياق أزمات متراكمة، بدءًا من التحديات الاقتصادية، مرورًا بأزمة اللاجئين، وصولًا إلىتغييرٌ جذريّ أم موجة عابرة؟
القلق المتزايد من تداعيات العولمة وتحديات الهوية الوطنية. جملة هذه التغيرات تثير تساؤلات، حول ما إذا كان هذا التحول مجرد موجة انتخابية عابرة، أم أنه يعكس اتجاهًا استراتيجيًا طويل الأمد سيعيد تشكيل الخارطة السياسية الأوروبية.

في ألمانيا، جاءت الفرصة السانحة أمس لاستعادة الحزب اليميني المحافظ للسلطة، -الاتحاد الديمقراطي المسيحي (حزب السياسية الفذة انجيلا ميركيل) بقيادة ميرتس- بعد أن واجه الحزب الاشتراكي الديمقراطي بقيادة شولتز تراجعًا حادًا في شعبيته بعد فترة حكم قصيرة، اتسمت بعدم الاستقرار السياسي. يعود جزء هام من هذا التراجع إلى تراجع التحالف الحاكم السابق، -الذي ضم الاشتراكيين والخضر والليبراليين- في تقديم حلول ناجعة للتحديات الاقتصادية، فضلاً عن الانقسامات الحادة بشأن تمويل الحرب الأوكرانية. مما أدت هذه الأزمات إلى انهيار الائتلاف الحاكم والدعوة إلى انتخابات مبكرة.

لم يكن صعود اليمين في ألمانيا منعزلاً، بل يأتي ضمن موجة واسعة شملت دولًا أوروبية هامة أخرى. ففي إيطاليا، وصلت جورجيا ميلوني إلى الحكم على رأس حزب "إخوة إيطاليا"، معتمدةً على خطاب وطني محافظ. وفي فرنسا، ورغم نجاح الرئيس إيمانويل ماكرون في الاحتفاظ بالرئاسة، إلا أن صعود مارين لوبان وحزبها "التجمع الوطني" عكس تحولًا واضحًا في مزاج الناخب الفرنسي. أما في هولندا، فقد شهدت الانتخابات الأخيرة صعودًا كبيرًا لحزب الحرية اليميني، ما يعكس اتجاهاً متزايداً نحو التغيير في سياسات الاتحاد الأوروبي والتوجهات الليبرالية التقليدية. بالمقابل يتولى حزب العمال السلطة في بريطانيا والذي تتقارب -حديثا- الاختلافات الجوهرية بينه وبين حزب المحافظين اليميني.

التحولات السياسية في أوروبا تتزامن مع تغيرات مماثلة في الولايات المتحدة، حيث يعود الحزب الجمهوري بقوة إلى المشهد السياسي، خاصة مع إعادة انتخاب الرئيس دونالد ترامب الذي رحب أمس بفوز المحافظين في ألمانيا وتمنى لهم مزيدا للانتصارات! فمما لا شك فيه أن التغيرات السياسية في الولايات المتحدة تؤثر بشكل مباشرعلى السياسات الأوروبية، خاصة فيما يتعلق بالعلاقات مع الصين وروسيا، وتمويل الحرب الأوكرانية، وسياسات الهجرة وغيرها.

يمكن تفسير صعود اليمين في أوروبا بعدة عوامل متشابكة، من بينها تزايد الضغوط الاقتصادية والتضخم،علاوة على تحدي تزايد الهجرة غير الشرعية، الذي خلق شعورًا متزايدًا بين الناخبين الى الحاجة الى السياسات أكثر تشددا، اضافة الى تصاعد الأصوات المنتقدة للبيروقراطية الأوروبية، وشعورشريحة واسعة من الطبقة الوسطى بأنها تُركت خارج دوائر صنع القرار.

من المتوقع أن يُترجم صعود اليمين إلى سياسات أكثر تشددًا في قضايا الهجرة والأمن، ومواقف أكثر تحفظًا تجاه التكامل الأوروبي. وربما نشهد توجهات نحو مراجعة الاتفاقيات التجارية والحد من تدخل (بروكسل) في السياسات الوطنية. لكن يبقى السؤال الأهم: هل سيتمكن اليمين من تقديم حلول عملية لمشكلات أوروبا، إذ ان مواجهة التحديات الاقتصادية والاجتماعية المعقدة تتطلب حلولاً واقعية تتجاوز الخطابات الشعبوية.

لا أعتقد أن صعود اليمين في أوروبا مجرد موجة انتخابية عابرة، بل يعكس تحولات هيكلية في المشهد السياسي، مدفوعة بعوامل اقتصادية واجتماعية وثقافية. ومع ذلك، يبقى من المبكر الجزم بما إذا كان هذا التحول سيؤدي إلى استقرار سياسي جديد، أم أنه سيفتح الباب أمام مزيد من التحديات. ما هو مؤكد أن أوروبا تشهد اليوم تحولًا استراتيجيًا سيفرض نفسه على سياسات الحكومات، وعلى علاقاتها مع العالم الخارجي، بما في ذلك العالم العربي الذي يتشابك مع تداعيات هذه التحولات بالأخص ما يرتبط بسياسات الهجرة، والتعاون الاقتصادي، والاستقرار الإقليمي.




عدد المشاهدات : (4555)

تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لن ينشر أي تعليق يتضمن اسماء اية شخصية او يتناول اثارة للنعرات الطائفية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار وكالة رم للأنباء - أخبار عاجلة، آخر الأخبار، صور وفيدوهات للحدث. علما ان التعليقات تعبر عن راي اصحابها فقط.
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :