رم - يصادف تاريخ ١/٤/٢٠٢٥ الذكرى السنوية الأولى لرحيل أحد أبرز قامات القضاء الأردني وأساتذة القانون الفقيه الحقوقي الدكتور عبد القادر اسماعيل الطورة رحمه الله "أبوجلال"، وكان الفقيد قد تدرج في السلك القضائي ليصبح نائب رئيس محكمة التمييز ومن ثم قاضي في المحكمة الدستورية عند تأسيسها، وأيضاً عمل محامي ومُحكم ومحاضر متفرغ وغير متفرغ لمواد القانون في المعهد القضائي وفي عدد من الجامعات الأردنية وعميداً لكلية الحقوق في أحد الجامعات الأردنية.
نشأ الفقيد وترعرع في الشوبك- محافظة معان وأنهى دراسته الابتدائية ومن ثم الإعدادية في مدارس الشوبك وتابع دراسته الثانوية في مدرسة معان الثانوية حتى حصل على الثانوية العامة الفرع العلمي في تخصص الرياضيات عام 1964م، وكانت موهبته الرسم وشغفه الرياضيات وطموحه دراسة الهندسة لكن الأقدار هيأت له دراسة الحقوق ليتفق هذا مع رغبة والده رحمه الله في أن يصبح ابنه "حاكم صلح" حيث وجد الفقيد في الحقوق ما يتفق مع ميوله العلمية؛ حينها قال" إنني وجدت أن الحقوق منطق كما الرياضيات منطق" الأمر الذي جعله محباً لهذا العلم ودعاه إلى مواصلة مسيرته الاكاديمية إلى الدراسات العليا بعد أن حاز على إجازة في الحقوق من جامعة دمشق عام 1975م؛ ليستكمل دراسته لاحقا ويحصل على دبلوم القانون العام عام 1984م ثم دبلوم القانون الخاص عام 1985 من جامعة القاهرة واستمر في الجامعة إلى أن نال درجة الدكتوراه عام 1988م وكان موضوع الاطروحة (التحكيم في منازعات العمل الجماعية) قد أثار حواراً قانونيا في الأوساط الجامعية آنذاك لما لهذا الموضوع من أهمية اجتماعية واقتصادية تتمثل في الحد من النزاعات الجماعية بين العمال من طرف وأصحاب العمل من طرف أخر؛ إذ أن النظر في هذا النوع من القضايا يكون من قبل محكمة متخصصة وهي المحكمة العمالية.
كان للفقيد حياة مهنية ووظيفية زاخرة بالعطاء في مجالات العمل المختلفة، حيث بدأ حياته الوظيفية في وزارة المواصلات وعمل كمدير بريد الشوبك ولاحقا مدير بريد معان ليتم ترقيته إلى مدير مواصلات محافظة معان، واستمر فيها حتى انتقل من وزارة المواصلات إلى وزارة العدل ليدخل عام 1981م المسابقة القضائية ويحرز المرتبة الأولى في المسابقة؛ ومن هنا تبدأ مسيرته المهنية في السلك القضائي حين عُين قاضي صلح في محكمة معان ومن ثم تدرج في السلك القضائي كقاضي بداية وقاضي استئناف في المحاكم الأردنية ومحاكم إمارة دبي ومن ثم قاضي محكمة التمييز ثم عين نائبا لرئيس محكمة التمييز وقاضي في محكمة العدل العليا، ومن ثم عين كعضو في المحكمة الدستورية عند تأسيسها، وإلى جانب عمله في سلك القضاء كان عضواً في الهيئة الاستشارية للدراسات والبحوث القانونية والقضائية وعضواً في اللجنة الأكاديمية للمعهد القضائي الأردني، وأيضاً محاضر غير متفرغ في المعهد القضائي وفي العديد من الجامعات الأردنية، وقد تخلل هذه المسيرة الوظيفية أن غادر السلك القضائي - قبل أن يعود إليه بعد ثمانية سنوات - ليتفرغ لتدريس الحقوق في أحد الجامعات الأردنية ويؤسس فيها كلية الحقوق ويرافق ذلك عمله كمحامي بالإضافة إلى مشاركاته في عدد من المؤتمرات والندوات والملتقيات العلمية والثقافية داخل الأردن وخارجه.
لقد كانت حياة الفقيد الوظيفية والمهنية والاجتماعية غنية بالعطاء والإنجازات والتجارب تمخضت عنها أراء تُجسد خلاصة رحلة عاصفة بالتحديات، فقد كان يرى أن للقضاة محددات يجب أن تُتبع بصرامة لا تهاون فيها، منها ان القاضي لا يُستشار حتى لو كانت القضية غير منظورة أمامه بل ليس للقاضي أن يبدي رأياً في أي قضية منظورة أو غير منظورة؛ وهو في كل الحالات ينظر في الوقائع والأدلة والقرائن ويحكم بموجبها، لذلك نجد من المنطق أن يوُصف القاضي الراحل من قبل من يعرفه بل وممن أصدر بحقهم أحكام وفق أحكام القانون بوصف "القاضي العادل"، إذ كانت مسألة العدالة لديه ذات مفهوم عميق يعبر عنها بعبارة "إن العدالة تقتضي هذا الأمر" مقدمًا العدالة على أي اعتبار آخر، وكان يؤمن بأن القانون ليس مجرد نصوص جامدة، بل روح تسعى لتحقيق المساواة والإنصاف بين الناس؛ لذلك ليس مستغرباً أن يكون الفقيد قد سجل نفسه ك "محامي متطوع" في عدد من القضايا المنظورة أمام المحاكم، كما كان يرى أن القاضي لا يمارس السياسة وإن كان عليه أن يدرس السياسة ويفهمها ويعي أطرافها حيث كان يرى أن التعريف العام والوافي للسياسة يتمثل بعبارة "السياسة فن الممكن".
وبعيدًا عن أروقة المحاكم لم يكن الدكتور عبد القادر الطورة مجرد قاضي يؤدي واجبه فحسب، بل كان مثالًا يُحتذى به في النزاهة والحياد، فقد امتاز برؤيته العميقة للأمور، وبقدرته على تحليل القضايا من كافة الجوانب وكان إنسانًا نادرًا قريبًا من الجميع؛ صاحب قلب رحب وعقل نير، لم يتوانَ يومًا عن تقديم النصيحة أو الدعم لمن يحتاجها، وكان محبًا للخير يعطي من وقته وجهده لكل من طرق بابه، لم يعرف التكبر أو الاستعلاء بل كان يمد يده للجميع ونصرة الضعيف والمظلوم، وكان مثالًا يحتذى به خلقاً وعلماً وعملاً.
رحل جسد الدكتور عبد القادر الطورة رحمه الله، لكن أثره باقٍ بيننا في ذكرياته الطيبة، وفي بصماته التي تركها في سلك القضاء ومهنة المحاماة والمجال الأكاديمي الحقوقي وفي المجتمع الأردني الكبير من خلال مساهماته المؤثرة في إرساء روح الأصالة وقيم التقارب والتسامح فيه، وأيضاً أثره في نفوس من عرفوه ستبقي كلماته وحكمته نهجًا يستضاء به، وسيظل اسمه محفورًا في ذاكرة كل من تعامل معه أو تعلم منه.
نسأل الله العلي القدير أن يتغمده بواسع رحمته، وأن يسكنه فسيح جناته، وأن يجعل علمه وعمله شفيعًا له يوم القيامة.