رم - الدكتور ليث عبدالله القهيوي
في خضم التغيرات الإقليمية والتحديات الداخلية، يقف الأردن عند مفترق طرق حاسم يتطلب مراجعة جذرية لمفاهيم التحديث السياسي والاقتصادي. فالمنظومة السياسية التي لطالما وعدت بالإصلاح، ما زالت بحاجة الى خطوات حقيقية جدية لا شكلية غير قادرة على إحداث التغيير المنشود. ويتجلى هذا التردد في الواقع الحزبي المؤلم، الذي يعاني من ضعف في البنية، وغياب للرؤية، وانفصال شبه كامل عن الشارع، وخصوصاً عن فئة الشباب التي تمثل العمود الفقري لمستقبل الوطن.
الشباب الأردني يعيش حالة من الاغتراب السياسي والاقتصادي في وطنه، لا بسبب قلة الولاء أو انعدام الانتماء، بل نتيجة تراكم خيبات الأمل وشح الفرص. فقد أضحت وظيفة محدودة الأفق حلمًا يتعذر الوصول إليه، فيما صارت الهجرة خيارًا عقلانيًا للكثيرين منهم، لا بحثًا عن الغنى، بل هروبًا من واقع يفتقر للعدالة والتمكين الحقيقي. والمؤسف أن هذه الحالة تأتي في ظل مشاريع ريادية وشبابية تجميلية أكثر منها جوهرية، تفتقر للتأثير الحقيقي في تغيير الواقع، وتعجز عن إعادة الأمل لمن فقده.
إن مظاهر التحديث السياسي، بما فيها تعديلات القوانين، وإنشاء مؤسسات جديدة، وتنظيم منتديات حوارية، لا تزال عاجزة عن إنتاج محتوى سياسي يعكس نبض الشارع، أو يؤسس لطبقة حزبية جديدة تمتلك الجرأة والكفاءة لتوجيه البوصلة الوطنية نحو المستقبل. فالخطاب الرسمي يميل إلى الإنشاء والتنظير، ويبتعد عن ملامسة جوهر معاناة المواطن اليومية، خصوصاً في ظل أزمة اقتصادية خانقة تتفاقم بسبب البيروقراطية، وضعف القطاع العام، وغياب العدالة في توزيع الموارد.
ما يفاقم المشكلة هو عدم الجدية الحقيقية نحو فتح المجال العام أمام الشباب ليكونوا جزءًا من عملية صنع القرار، لا مجرد متلقين أو أدوات دعائية. إن استمرار تهميشهم سيؤدي إلى مزيد من القطيعة بين الدولة والمجتمع، ويفتح المجال أمام البدائل غير المؤسسية التي قد تحمل مخاطر على استقرار الدولة في المستقبل. المطلوب ليس فقط تمكين الشباب شكليًا عبر مبادرات إعلامية، بل توفير أدوات حقيقية للنفاذ إلى الفعل السياسي، بما في ذلك الأحزاب، والبرلمان، والإدارة المحلية ، المواقع القيادية في المؤسسات ، وعدم اعادة انتاج للشخصيات من موقع الى موقع اخر وعدم جعلهم فقط كجسور عبور للوصول .
على الصعيد الاقتصادي، فإن غياب استراتيجية إنتاجية واضحة تعزز ريادة الاعمال وعمل خارطة ريادية و الابتكار والاستثمار في الطاقات الشبابية، يجعل من كل محاولات الإصلاح مجرد تحركات موضعية تفتقر للاستدامة. ان الرهان يجب أن يكون على خلق بيئة تمكينية حقيقية تنقل الشباب من هامش الاقتصاد إلى مركزه، عبر برامج تدريب جادة، ودعم ريادة الأعمال، وتحفيز الاستثمار في القطاعات الحيوية. كما أن على الدولة مراجعة سياساتها تجاه التعليم وسوق العمل لتقليص الفجوة بين المهارات المطلوبة والوظائف المتاحة، وهو ما لن يتحقق دون شراكة حقيقية بين القطاعين العام والخاص.
ورغم كل هذه التحديات، لا يزال لدى الشباب الأردني إيمان عميق بوطنهم، وإصرار على البقاء فيه والمساهمة في بنائه، إذا ما وجدوا المؤسسات التي تستمع لهم وتحترم عقولهم وأحلامهم. هذا الولاء العاطفي لا ينبغي أن يُستهان به أو يُستغل، بل يجب أن يُستثمر في إعادة صياغة العقد الاجتماعي بين الدولة والمواطنين، بحيث تُبنى علاقة قائمة على الحقوق والواجبات، وتتحقق من خلالها الحوكمة الرشيدة.
إن مستقبل الأردن مرهون بقدرته على التحول من الإصلاحات الشكلية إلى التحولات البنيوية، التي تبدأ من فتح أفق المشاركة السياسية أمام الجميع، مروراً بإعادة بناء الاقتصاد على أسس إنتاجية وعدالة اجتماعية، وانتهاءً ببناء دولة مدنية قوية تتسع لجميع مواطنيها دون إقصاء أو تهميش. البوصلة لا تزال في يد الدولة، ولكن من يملك الشجاعة لوضعها في الاتجاه الصحيح، وتحمل تكلفة العبور إلى المستقبل؟ هذا هو السؤال الحاسم في المرحلة القادمة.