الوزني يكتب : الحماية الجمركية أداة أم وسيلة؟


رم -

بقلم: أ.د. خالد واصف الوزني




أنتج النظام الاقتصادي العالمي عقب الحرب العالمية الثانية عام 1945 ثلاث مؤسَّسات دولية، صندوق النقد الدولي لمعالجة اختلالات أسعار الصرف وموازين المدفوعات، والبنك الدولي للإنشاء والتعمير لتقديم القروض المُيسَّرة لإعادة بناء البنية التحتية ودعم القطاعات الاقتصادية المُدمَّرة، ومنظمة التجارة الدولية ITO لدعم وتحفيز التبادل التجاري بين الدول وتحرير التجارة.

 

وقد بدأت المؤسَّستان الأولى والثانية العمل بكثافة ونشاط، وانبثق عنهما مؤسَّسات، خمس منها في حالة البنك الدولي، وشاهد العالم نتائج أعمالهما باستفادة أحياناً، وبجدل ونقد وهجوم أحياناً أخرى.

 

بيد أنَّ المنظمة الدولية الأخيرة لم تشهد النور، وبقيت حبيسة المصالح التجارية، رهبة من التحرير التجاري، في حقبة دُمِّرت فيها الكثير من الصناعات والبنية التحتية، وأضرَّت بالصناعات الكبرى وموازين التبادل التجاري بشكل كبير، وبات أمر تحرير التجارة، إبّان تلك الفترة، مجازفة كبيرة. وفي الوقت الذي امتدت فيه مفاوضات الخروج بمعادلة مناسبة لتحرير التجارة على مدى ما ينوف على خمسين عاماً، حتى العام 1995، حينما ظهرت منظمة التجارة العالمية WTO تتويجاً لما عُرِفَ بجولات الجات GATT، فقد تحوَّلت الدول الكبرى، وخاصة في أوروبا، نحو سياسات أسمتها الحماية التنافسية Competitive Protectionism، وهي سياسات اعتمدت من جهة على الحماية الجمركية الكبيرة مع العالم الخارجي، منعاً لمنافسة منتجات الصناعات الناشئة أو المُعاد إنعاشها بعد الحرب من العالم الخارجي.

 

ومن جهة أخرى، تبنَّت سياسات تنافسية محلية وإقليمية أوروبية تقوم على وسائل ومبادئ ومعايير ضمان جودة المنتج، ودعم الإنفاق على البحث والتطوير، وتوفير الطاقة بكلف مناسبة، وتوفير التدريب والتأهيل للقوى العاملة، عبر النظام التعليمي، وعبر التدريب المهني والتقني. وكانت النتيجة تنمية وتقوية صناعات ذات جودة عالية وقوة مدعومة بمبادئ البحث العلمي والملكية الفكرية.

 

وتلازم ذلك مع البدء بمبادرات التعاون الإقليمي بين الدول الأوروبية، بداية بتحرير التجارة البينية تدريجياً، ثمَّ إنشاء الاتحاد الجمركي الذي وحَّد الرسوم بين الأعضاء عند مستويات مقبولة، واحتفظ برسوم جمركية حمائية مع العالم الآخر، ثمَّ النزوع إلى السوق المشتركة بداعي التبادل التجاري بشكل أكبر عبر تحرير التجارة وتفكيك الرسوم الجمركية بين المجموعة، وصولاً إلى الاتحاد الاقتصادي، الذي وحَّدَ القارة الأوروبية، في نهاية المطاف، ضمن سياسات مالية ونقدية، وعملة واحدة. وقد أظهرت التجربة الأوروبية قوة ونجاعة التدرُّج في تحرير التجارة، وصولاً إلى منطقة اقتصادية متوحِّدة ذات قدرات وقوة اقتصادية كبيرة، حتى بعد أن اهتزت بالخروج البريطاني منها.

 

الشاهد أنَّ معادلة التعرفة الجمركية التي انتهجتها تلك الكتلة عملت مؤقتاً على حماية صناعاتها وتقويتها، وأنَّ مبرِّرات بقائها انتفت بعد أن بات الفيصل هو الجودة، والقدرة على التنافس عالمياً. فلم تكن التعرفة الجمركية يوماً مَصدراً لجباية المال لخزينة الدولة، كما أنها لم تكن وسيلة لمنع التبادل التجاري بقدر ما كانت أداة لدعم وتقوية الصناعات الوليدة ومساندة الصناعات الناهضة.

 

الصين، والعديد من الاقتصادات الناشئة، تعلَّمت درس الرسوم الجمركية مبكِّراً، وجعلت أهمَّ توجُّهاتها النفاذَ إلى الأسواق عبر النوعية والكلف المجدية المناسبة، وخاصة بعد أن آمَنَ الجميع بحرية التجارة كمعادلة رابحة، وأنَّ الخاسر الوحيد هو مَن لا يقوى على المنافسة، في سوق انفتح وتوسَّع، وباتت التطبيقات الذكية تجعله مفتوحاً على كلِّ المستهلكين في العالم، حتى إنَّ الشراء من سوق ومنتجات الدول بات بين أنامل كلِّ مَن لديه القدرة الشرائية. الحماية الجمركية اليوم لن تفيد الراغبين بالاختباء وراءها، بل ستكون أكبر تشوُّه تعيشه الأسواق المحلية عبر تضخُّم أسعار المواد الخام، وتوَلُّد ضغوط تضخُّم التكاليف، وقد يركن المُنتِج المحلي إلى الحماية فيكون الربح على حساب النوعية والجودة.

 

الخاسرون في سوق الحماية الجمركية، في الدول التي تنزع إليها، المستهلكون، والعملات المحلية، والقائمون على السياسات النقدية، الضرر سيصيب الجميع. المَخرَج الوحيد سيكون بالنزوع نحو نظام نقدي عالمي جديد، قد يفقد فيه الدولار مكان الصدارة، ويتحوَّل العالم قريباً نحو تسويات تبادلية ثنائية، أو ضمن مجموعات تجارية، أو بكليهما، ومن الواضح أنَّ العملات الرقمية ستكون سيدة الموقف، وأنَّ عملات وطينة، أو سلة عملات وطنية، ستقود أسواق التجارة الدولية، وأسعار التبادل الدولي، ومعدلات أسعار الصرف، ونِسب ومستويات التضخُّم في العالم. الأمر حتمية كانت ستحدث بين عقد إلى عقدين، ولكن السياسات الترامبية المُدمِّرة تجارياً ستُعَجِّل ببزوغ فجر نظام عالمي نقدي جديد بشكلٍ أسرعَ ممّا نعتقد، نظام السعر الثابت نظام نقدي متزن، ولكن على الدول أن تتحوَّل تدريجياً وشيئاً فشيئاً ضمن معادلة مدروسة، وعبر السنوات الخمس القادمة، نحو نظامِ ربطٍ ثابتٍ بعيدٍ عن سيطرة الدولار، مع إمكانية أن يبقى الدولار ضمن تلك المعادلة، ولكن ليس هو المُسيطِر عليها.

 


أستاذ الاقتصاد والسياسات العامة
كلية محمد بن راشد للإدارة الحكومية




عدد المشاهدات : (5849)

تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لن ينشر أي تعليق يتضمن اسماء اية شخصية او يتناول اثارة للنعرات الطائفية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار وكالة رم للأنباء - أخبار عاجلة، آخر الأخبار، صور وفيدوهات للحدث. علما ان التعليقات تعبر عن راي اصحابها فقط.
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :