التعليم العالي في الأردن : تراجع البحث العلمي والابتكار في الجامعات الأردنية


رم - التعليم العالي في الأردن
واقع وتحديات (3 – 7)
التحدي الثالث: تراجع البحث العلمي والابتكار في الجامعات الأردنية

د. هيثم علي حجازي
يُعتبر البحث العلمي والابتكار ركيزتين أساسيتين لتقدم الأمم وتحقيق التنمية المستدامة، وهو ما أدركته الدول المتقدمة التي جعلت من الجامعات مراكز إشعاع معرفي وبيئات إنتاج للعلم والتقنية. أما في الحالة الأردنية، فرغم أن الجامعات تحتضن عددا كبيرا من الأكاديميين والطلبة (13906 عضو هيئة تدريس منهم 59% يعملون في الدامعات الرسمية، و474618 طالبا منهم 63% أيضا في الجامعات الرسمية)، وتتمتع بإرث أكاديمي طويل، إلا أن مساهمتها في البحث العلمي والابتكار لا تزال دون المستوى المطلوب، وهو ما يثير قلقا متزايدا في ظل الحاجة الملحّة إلى اقتصاد قائم على المعرفة.
مؤشرات تراجع البحث العلمي:
تظهر البيانات والمؤشرات أن الجامعات الأردنية، وباستثناء محدود، تعاني من تراجع مستمر في إنتاجية البحث العلمي، ويظهر ذلك في عدة جوانب:
• ضعف الإنفاق على البحث العلمي: تشير المعلومات المتوافرة إلى أن نسبة الإنفاق على البحث العلمي في الجامعات عموما لا تتجاوز في المتوسط 0.3% إلى 0.5% من موازنة الجامعة، وهي نسبة متدنية جدا مقارنة بالمعدل العالمي الذي يتراوح بين 2.5% و5% في الدول المتقدمة.
• انخفاض عدد الأبحاث المنشورة: رغم وجود كفاءات أكاديمية جيدة، فإن عدد الأبحاث العلمية المحكّمة والمنشورة دوليا في مجلات عالية التصنيف (Q1) و (Q2) يبقى محدودا نسبيا، ويتركز في جامعات دون أخرى. كما أن نسبة كبيرة من الأبحاث تفتقر إلى الأصالة أو الأثر العملي والتطبيقي.
• قلة براءات الاختراع ومشاريع الابتكار: تشير الإحصاءات إلى أن عدد براءات الاختراع المسجلة من قبل الجامعات الأردنية ما زال محدودا جدا، ويقل عن المعدلات الإقليمية، ناهيك عن غياب منظومات الابتكار والريادة داخل الحرم الجامعي، وضعف العلاقة مع الصناعات الوطنية لتبنّي تلك الابتكارات.
• هجرة الباحثين وضعف الاستقرار المهني: إذ يؤدي ضعف التمويل وقلة الحوافز البحثية إلى تراجع دافعية الباحثين، وهجرة الكفاءات العلمية إلى دول توفر بيئة بحثية أفضل. كما أن بعض الأكاديميين ينشغلون بعبء التدريس، أو العمل الإداري الخاص بمتطلبات الجودة والاعتماد على حساب التفرغ البحثي.
الأسباب الرئيسية لتراجع البحث العلمي والابتكار:
هناك العديد من الأسباب التي أدت، وما تزال، إلى تراجع مستوى البحث العلمي والابتكار في الأردن. وتتمثل هذه الأسباب فيما يلي:
• ضعف التمويل البحثي: تعاني الجامعات من محدودية الدعم المالي المخصص للبحث العلمي سواء من الموازنة العامة أو من التمويل الخارجي. كما أن صندوق البحث العلمي في الأردن، رغم إنشائه كجهة داعمة، لم يتمكن من سد الفجوة التمويلية الكبيرة أو الوصول لكل الباحثين بكفاءة.
• نقص البنية التحتية البحثية: تفتقر كثير من الجامعات إلى مختبرات بحثية متقدمة أو مراكز تكنولوجية متخصصة، كما تعاني بعض المخابر من تقادم الأجهزة، أو نقص الكوادر الفنية المساعدة.
• تدنّي مستوى حوافز دعم البحث العلمي: توجد في الجامعات تشريعات لتحفيز البحث العلمي، مثل مكافآت للنشر في مجلات عالمية، أو منح للتفرغ العلمي، لكن من الواضح أن مستوى تلك الحوافز متدنٍّ، مما لا يساعد الباحث على إجراء البحوث الرصينة ونشرها في مجلات مرموقة.
• ضعف الشراكات مع القطاع الخاص: يُعتبر القطاع الخاص شريكا مهما في دعم البحث التطبيقي والابتكار، لكن العلاقة بين الجامعات الرسمية والقطاع الخاص لا تزال ضعيفة أو شكلية، مما يحدُّ من فرص الاستفادة من مخرجات البحث العلمي.
• غياب ثقافة الابتكار وريادة الأعمال: لا تُدرج ثقافة الابتكار كجزء أساسي من فلسفة التعليم الجامعي في معظم الجامعات، ولا توجد حاضنات أعمال فاعلة أو برامج لتمويل المشاريع الريادية الطلابية أو البحثية.
• قيود إدارية وتشريعية: تعاني عملية البحث العلمي من بيروقراطية مفرطة سواء في صرف مكافآت دعم البحث العلمي، أو في الحصول على موافقات لإجراء الأبحاث، أو في إدارة المشاريع البحثية، مما يضعف معوية الباحث ويؤثر سلبا على الإنتاجية.

الآثار السلبية لتراجع البحث العلمي
إن استمرار تراجع مستوى البحث العلمي، وعدم القيام بجراحة ناجعة، سيؤدي إلى:
• ضعف تصنيف الجامعات الأردنية عالميا: إذ لا تزال معظم الجامعات الأردنية خارج التصنيفات العالمية المرموقة أو في مراكز متأخرة، ويعود ذلك بشكل رئيس إلى محدودية الأبحاث المنشورة عالميا وضعف تأثيرها العلمي.
• تراجع الابتكار المحلي: فضعف البحث العلمي يعمل على الحد من قدرة الأردن على إنتاج التكنولوجيا المحلية أو تطوير حلول للمشكلات، مما يجعله معتمدا على استيراد المعرفة والتكنولوجيا من الخارج.
• انفصال الجامعة عن المجتمع: ففي ظل غياب البحوث التطبيقية والمشاريع المجتمعية، تصبح الجامعة مؤسسة أكاديمية معزولة، غير قادرة على المساهمة الفاعلة في حل القضايا الوطنية مثل الطاقة، المياه، الزراعة، أو الصحة.
• تضييق الفرص على الطلبة والباحثين: إذ يتضرر الطلبة من هذا التراجع نتيجة غياب البيئة البحثية الجاذبة، مما يضعف من مهاراتهم العلمية والعملية، ويؤثر على فرصهم في المنافسة إقليميا أو عالميا.

توصيات للنهوض بالبحث العلمي والابتكار
إزاء ذلك كله، فإن ثمة توصيات يمكن أن تسهم في تحسين واقع البحث العلمي في مؤسسات التعليم العالي في الأردن، وعلى النحو التالي:
• رفع مخصصات البحث العلمي: ينبغي تخصيص نسبة لا تقل عن 1% من الناتج المحلي الإجمالي في الدولة للبحث العلمي، مع إلزام الجامعات برفع نسبة الإنفاق البحثي من موازناتها من خلال خفض الانفاق على الابتعاث، وتهيئة صناديق داعمة من القطاعين العام والخاص.
• تأسيس مراكز بحثية متخصصة: إنشاء مراكز تميز وطنية داخل الجامعات في مجالات استراتيجية مثل الذكاء الاصطناعي، الطاقة المتجددة، الأمن الغذائي، والطب الحيوي، وربطها بشبكات بحثية إقليمية ودولية.
• تحفيز النشر العلمي المتميز: وضع سياسات واضحة لمكافأة النشر في مجلات عالية التصنيف، وتوفير دعم مالي لتحمّل رسوم النشر، وعقد ورشات تدريب للباحثين حول معايير البحث والنشر العلمي.
• تعزيز الشراكة مع القطاع الخاص: تشجيع تأسيس وحدات "بحث وتطوير" مشتركة بين الجامعات ومؤسسات القطاع الخاص، وربط مخرجات البحث بمنتجات قابلة للتسويق، وتقديم حوافز ضريبية للمؤسسات التي تموّل البحث الجامعي.
• تبني بيئة تشجع الابتكار وريادة الأعمال: إنشاء حاضنات أعمال جامعية، وتضمين برامج الابتكار في المناهج، وتنظيم مسابقات علمية ومبادرات دعم المشاريع الريادية للطلبة والباحثين الشباب.
• إصلاح بيئة الإدارة البحثية: تبسيط الإجراءات الإدارية للبحث، وتطوير نظم متابعة وتقييم للمشاريع البحثية، ومنح الباحثين والمؤسسات البحثية استقلالية تامة في إدارة مواردهم.
ثمة فرص مهدورة عديدة نتيجة تراجع البحث العلمي، ويمكن الاستفادة منها في تحقيق التنمية الشاملة المستدامة. وتتمثل هذه الفرص المهدورة في:
• غياب المشاريع البحثية الكبرى متعددة التخصصات: مثل تلك المرتبطة بتقنيات الزراعة الذكية أو المدن المستدامة، رغم توفر الكفاءات العلمية في أكثر من جامعة.
• ضعف استثمار الرسائل الجامعية (ماجستير ودكتوراه): آلاف الرسائل تبقى حبيسة الأرفف دون تحويلها إلى مشاريع تطبيقية أو نشرها للاستفادة من مخرجاتها.
• عدم تسويق نتائج البحث: حتى في الحالات القليلة التي تُنتج فيها أبحاث نوعية، لا توجد آليات فاعلة لتسجيل براءات الاختراع أو تحويلها إلى منتجات قابلة للاستثمار.
إنّ تراجع البحث العلمي والابتكار في الجامعات الأردنية ليس مجرد تحدٍّ أكاديمي، بل هو قضية وطنية تؤثر في الأمن المعرفي والاقتصادي والتنموي للأردن. إن استعادة دور الجامعة كمحرّك للعلم والتغيير يتطلب جراحة ناجعة شاملة تعمل على دمج التمويل، والإدارة، والثقافة المؤسسية، والشراكات الاستراتيجية. فالجامعة التي لا تنتج معرفة جديدة ولا تسهم في حل مشكلات مجتمعها، تفقد مبرر وجودها في عالم يتسابق من أجل السيطرة على المستقبل.




عدد المشاهدات : (1546)

تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لن ينشر أي تعليق يتضمن اسماء اية شخصية او يتناول اثارة للنعرات الطائفية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار وكالة رم للأنباء - أخبار عاجلة، آخر الأخبار، صور وفيدوهات للحدث. علما ان التعليقات تعبر عن راي اصحابها فقط.
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :