هجرة العقول الأكاديمية من الجامعات الأردنية استنزاف للموارد البشرية ومعضلة استراتيجية


رم -

التعليم العالي في الأردن
واقع وتحديات (4 – 7)
التحدي الرابع: هجرة العقول الأكاديمية من الجامعات الأردنية
استنزاف للموارد البشرية ومعضلة استراتيجية


د. هيثم علي حجازي
في ظل تصاعد الأزمات التي تواجه قطاع التعليم العالي في الأردن، تبرز هجرة الكفاءات الأكاديمية كأحد أبرز وأخطر التحديات التي تواجه الجامعات الأردنية، سواء الرسمية أو الخاصة. فالأكاديميون هم المحور الأساس في العملية التعليمية والبحثية، وهجرتهم لا تقتصر آثارها على خسارة موارد بشرية، بل تتعدى ذلك إلى تراجع جودة التعليم، وتعطيل البحث العلمي، وانخفاض قدرة الجامعات على التطوير والابتكار. وقد شهدت السنوات الأخيرة تزايدا ملحوظا في وتيرة هجرة أعضاء هيئة التدريس من مختلف التخصصات، لا سيما الكفاءات المتميزة في العلوم الطبية والهندسية والتقنية. هذا النزيف المستمر للخبرات يُعدّ مؤشرا خطيرا على تدهور البيئة الأكاديمية والبحثية في الجامعات، ويستدعي معالجة استراتيجية فورية على المستوى الوطني.

مظاهر هجرة العقول الأكاديمية
تتجسد هجرة العقول الأكاديمية من خلال عدة مؤشرات، أبرزها:
• تزايد طلبات الإعارة والاستقالة: تشير البيانات إلى ارتفاع عدد أعضاء هيئة التدريس الذين يتقدمون بطلبات للإعارة أو الاستقالة بهدف العمل خارج البلاد، خاصة في دول الخليج، حيث الرواتب أعلى، والفرص البحثية أكثر تحفيزا.
• نزيف التخصصات الحيوية: يتركز النزيف الأكاديمي في التخصصات العلمية والطبية والتقنية، مما يخلق فجوات كبيرة داخل الكليات، ويؤثر على قدرة الجامعات على تقديم برامج تعليمية متكاملة ومتخصصة.
• تراجع معدل الإحلال والتجديد: في كثير من الحالات، لا تتمكن الجامعات من تعويض الأساتذة المغادرين بكفاءات مكافئة، إما بسبب قلة المتقدمين، أو بسبب قيود التوظيف المرتبطة بالميزانية، مما يؤدي إلى زيادة العبء على الكادر المتبقي.
• ضعف التنافسية الأكاديمية: تؤثر هجرة الكفاءات على التميز الأكاديمي للجامعات، حيث ينخفض عدد الأبحاث المحكمة، وتقل المشاركة في المؤتمرات الدولية، ويتراجع الأداء الأكاديمي العام.
الأسباب الرئيسية لهجرة العقول الأكاديمية
تقف وراء ظاهرة هجرة العقول الأكاديمية أسباب عديدة، تتطلب العمل على معالجتها وبالسرعة الممكنة. ومن هذه الأسباب:
• تدني الرواتب والحوافز: تُعد الرواتب في الجامعات الأردنية متدنية نسبيا مقارنة بما تقدمه الجامعات في دول الخليج أو المؤسسات البحثية العالمية. كما أن الحوافز الإضافية تكاد تكون معدومة، أو خاضعة لشروط بيروقراطية.
• ضعف البيئة البحثية: يعاني الأكاديميون من نقص الموارد البحثية، سواء من حيث التمويل أو المعدات أو فرص التعاون الدولي، مما يحدّ من طموحاتهم العلمية ويدفعهم للبحث عن بيئات أكثر دعما للبحث العلمي.
• القيود البيروقراطية والإدارية: تشكّل البيروقراطية الجامعية أحد أبرز معوّقات العمل الأكاديمي في الأردن، إذ تُفرض قيود على التفرغ العلمي، وتخضع الموافقات على المشاريع البحثية أو النشر لإجراءات معقدة وغير محفزة.
• غياب التقدير المهني والمعنوي: يشكو العديد من الأكاديميين من غياب التقدير الحقيقي لجهودهم، سواء من حيث الترقية الأكاديمية، أو المشاركة في اتخاذ القرار، أو الاعتراف بإنجازاتهم، مما يخلق شعورا بالإحباط وعدم الانتماء.
• الفرص الخارجية المغرية: تقدم الجامعات والمؤسسات البحثية في الخارج عروضا مجزية من حيث الراتب، وفرص النشر، والمشاركة في المؤتمرات الدولية، وهو ما يجعلها جاذبة للكفاءات الأردنية.
• الضغوط الاقتصادية والاجتماعية: ارتفاع تكاليف المعيشة، وغياب الأمان الوظيفي، وتضاؤل فرص النمو المهني في الأردن، وكلها عوامل تدفع الأكاديمي إلى التفكير بالهجرة كحل لتحسين ظروفه المعيشية والعلمية.
• التشريعات الناظمة للتعيين والترقية: ويتمثل ذلك في حصر التعيينات الأكاديمية في الجامعات بخريجي عدد محدود من الجامعات الغربية، وبغض النظر عن مؤهلات وقدرات حامل الشهادة، والاكتفاء فقط باسم الجامعة. يضاف إلى ذلك اضطرار مَنْ قاربوا سن الستين إلى البحث عن فرص عمل خارج البلاد تجنبا للاستغناء عن خدماتهم بسبب ما نصت عليه التشريعات من ضرورة إنهاء خدمات من بلغوا سن السبعين، وبعكس ما هو معمول به في الغالبية العظمى من دول العالم. كما يتمثل ذلك أيضا، في الكثير من الحالات، في وضع العراقيل والمعيقات أمام المتقدمين بطلبات للحصول على الترقيات الأكاديمية، وخضوع الأمر في كثير من الأحيان للعوامل الشخصية.

الآثار السلبية لهجرة الكفاءات الأكاديمية
يعتبر أعضاء الهيئات التدريسية في الجامعات الأردنية المكون الرئيس والأساس لرأس المال البشري والفكري والاجتماعي الأردني. وهجرة هذه الكفاءات لا تقتصر فقط على الخسائر المالية المتولدة عن هذه الهجرة من حيث خسارة العائد على الكلف التي أُنفقت على تعليم هؤلاء الأساتذة على مدى سنوات طوال، بل تتعداها إلى جوانب عديدة، تتطلب من الجهات المعنية الوقوف بجدية أمام هذه الظاهرة، التي إذا استمرت ستؤدي إلى عواقب سلبية كارثية نحن بغنى عنها. ومن هذه السلبيات:
• ضعف جودة التعليم: يفقد الطلبة فرص التعلم من أساتذة ذوي خبرات عالية، ويضطر البعض للتعامل مع أساتذة جدد أو غير متخصصين لسد الفراغ، مما يؤدي إلى تدني مستوى التحصيل العلمي.
• تراجع البحث العلمي: مع مغادرة الباحثين ذوي الإنتاجية المرتفعة، يتراجع إنتاج الجامعات من الأبحاث، ويضعف حضورها في المشهد العلمي العالمي.
• خلل في التوازن الأكاديمي داخل الكليات: تُحدث الهجرة فجوة في التوازن بين التخصصات، فبعض الكليات تصبح عاجزة عن توفير أعضاء هيئة تدريس مؤهلين، مما يدفعها إلى تقليص البرامج أو دمجها أو الاعتماد على المحاضرين غير المتفرغين.
• ارتفاع الكلفة المالية للتعويض: تلجأ بعض الجامعات لتعويض النقص عبر التعيين المؤقت أو الاستعانة بخبرات من الخارج، وهو ما يشكل عبئا ماليا إضافيا على موازنات الجامعات.
• تراجع التصنيفات الأكاديمية: تؤثر هجرة الكفاءات في تصنيفات الجامعات عالميا، إذ يعتمد جزء كبير من التصنيف على نسبة الأساتذة الحاصلين على جوائز، وعدد الأبحاث المنشورة، ومستوى التعاون الدولي.
حلول مقترحة للحد من هجرة العقول الأكاديمية
بهدف المساهمة في إيجاد حلول لظاهرة هجرة العقول الأكاديمية، يمكن العمل على:
• تحسين الرواتب والحوافز: ينبغي العمل على رفع سلم الرواتب لأعضاء هيئة التدريس في الجامعات الأردنية جميعها وبدون استثناء، وبحيث يتم تحديد سلم الرواتب من قبل مجلس التعليم العالي و / أو هيئة اعتماد مؤسسات التعليم العالي وضمان جودتها، ودون التذرع بأن هذا الأمر هو من اختصاص الجامعة، مع تقديم حوافز مادية مجزية للنشر العلمي.
• تعزيز بيئة البحث العلمي: توفير تمويل كافٍ ومعدات حديثة، وتسهيل التفرغ العلمي، وربط الأكاديميين بشبكات بحثية دولية تفتح لهم آفاق التطور دون الحاجة للهجرة.
• الإصلاح الإداري والحوكمة الجامعية: تقليص البيروقراطية، وتمكين الأساتذة من المشاركة في القرار الجامعي، وتطوير نظم ترقية موحدة لجميع الجامعات تعتمد على الجودة والأداء.
• برامج استقطاب الكفاءات العائدة: تصميم برامج خاصة لاستقطاب الأردنيين الأكاديميين العاملين في الخارج، وتوفير بيئة جاذبة لهم من حيث التقدير والدعم.
• تعزيز الارتباط بين الجامعة والمجتمع: بناء منظومات تشجع مشاركة الأكاديميين في مشاريع تنموية واقتصادية، مما يعزز شعورهم بدورهم الوطني ويزيد من انتمائهم.
• توفير امتيازات غير مالية: مثل التأمين الصحي الشامل، والسكن الجامعي، والمشاركة في المؤتمرات الدولية، والدورات التطويرية، مما يحسن من جودة الحياة المهنية.
إن هجرة العقول الأكاديمية من الجامعات الأردنية ليست مجرد مسألة شخصية أو خيار مهني، بل هي مؤشر خطير على أزمة بنيوية تتطلب تدخلا استراتيجيا شاملا. فبدون الحفاظ على الكفاءات، لا يمكن للجامعات أن تنهض، ولا يمكن للعلم أن يتقدم. ومواجهة هذا التحدي تبدأ بإعادة الاعتبار لدور الأستاذ الجامعي، وضمان بيئة مهنية عادلة ومحفزة، تتيح له الإبداع والعطاء في وطنه، لا خارجه.





عدد المشاهدات : (3315)

تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لن ينشر أي تعليق يتضمن اسماء اية شخصية او يتناول اثارة للنعرات الطائفية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار وكالة رم للأنباء - أخبار عاجلة، آخر الأخبار، صور وفيدوهات للحدث. علما ان التعليقات تعبر عن راي اصحابها فقط.
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :