المهندس عادل بصبوص
لم تدم فترة الخطوبة سوى تسعة عشر يوماً فقط ... فترة قصيرة وغير كافية بكل المقاييس... إلا أن طبيعة أسرة خطيبتي المحافظة جداً ورغبتهم في أن لا تستمر فترة الخطبة طويلاً قد عَجَّلَت في اتمام الزفاف ... كنت أحج إلى منزل الخطيبة يومياً ... نجلس في الصالون ساعة او ساعتين نتجاذب أطراف الحديث بحضور أمها ... ريثما يحضر الوالد مساءً من عمله فتغادر الخطيبة الجلسة وأكمل مع الوالد لبعض الوقت ... لم تتح لنا الفرصة للجلوس بمفردنا ولو لدقائق معدودة ... إلا أنني وبعد مرور ما يزيد عن الأربعة عقود ما زلت أرى تلك الأيام الأجمل والأروع التي مررت بها على الإطلاق ...
كان لا بد من عمل حفلة لإشهار الخطبة في بيت أنسبائي ... كان من المتعارف عليه أن يقوم أهل العريس بعمل وليمة تشابه إلى حد كبير وليمة العرس ... حيث يتم ذبح الخراف وإيقاد النار تحت القدور وعمل المناسف للجميع ... لم أعد أتذكر من اقترح أن يتم الاكتفاء بتوزيع ما كان يعرف في ذلك الحين 'بالمَطْبَقَنِيَّاتْ' ومفردها 'مَطْبَقَنِيِّة' وهي عبارة عن قطعة زجاجية على شكل تحفة أو كأس توضع فيها حبات من الشوكلاته وتكون مُغَلَّفَةً بغطاء شفاف ... من جهتي رحبت بالفكرة من باب التوفير ... في حين تَرَدَدَ أهل الخطيبة في البداية ... فهم مع الفكرة لأنها سَتُريحهم من تَبِعاتْ إعداد الطعام وتقديمه في منزلهم ... وغير متحمسين لها في ذات الوقت خشية أن يمس ذلك بصورتهم أو مكانتهم أمام الجميع ... لم نكن في موقع الذي يملك الضغط أو التأثير على قرارهم ... لكنهم وافقوا في النهاية على الاكتفاء 'بالمَطْبَقَنِيَّاتْ' ... ممارسة نظر اليها الكثيرون في ذلك الوقت بشيء من الاستنكار وعدم الرضا ... إلا انها سرعان ما أصبحت التقليد المتبع في أغلب الأعراس لعدة سنوات قبل ان يتم الإقلاع عنها نهائياً ... والتوجه لإلغاء حفلة الخطبة بالكامل أو عملها على أضيق نطاق ...
كان أخي يقيم مع زوجته وأطفاله الثلاثة في إحدى غرف المنزل وكان عَلَيَّ أن أقيم بعد الزواج في غرفة أخرى فيما تقيم باقي العائلة في الغرفتين الباقيتين ... لم تعترض أسرة خطيبتي التي لم تكن مُتَطَلِّبَةً على الإطلاق على اقامة ابنتها في غرفة واحدة مع العائلة فقد كان ذلك مقبولاً ومألوفاً جداً في تلك الأيام ...
تم تحديد موعد العرس في أواخر شهر آب وقد حَرِصْتُ عند طباعة بطاقات الدعوة أن أكتب اسم خطيبتي الصريح على البطاقة مخالفاً بذلك ما كان سائداً في ذلك الوقت باستبدال اسم العروس 'بكريمته'...
لم تكن ظاهرة إقامة الأفراح في الصالات قد انتشرت بعد ... لذا كان علينا أن نُهَيِّءَ المنزل لإقامة حفلة ومراسيم العرس ... تم عمل 'صيوان' على السطح من خشب الطوبار مع أغطية مناسبة ليكون المكان الذي يستقبل الضيوف الرجال في السهرات ويكون مكان تقديم الغداء يوم العرس ... كما تم تجهيز غرفة الصالون الواسعة بوضع الزينة والبلالين والكرنيش بحيث يكون مكاناً لغناء ورقص السيدات في السهرات ولحفلة العرس بعد قدوم العروس وجلوسها على 'اللوج مَصْمودَةً' بجانب عريسها ... 'اللوج' الذي لم يكن سوى طاولة مستطيلة عليها شرشف وفَوْقها كرسيين اثنين وخلفهما سجادة مثبتة على الجدار كالتي يحضرها القادمون من الحج .... عليها صور الحرمين الشريفين ...
بدأت السهرات مساء الثلاثاء واستمرت يومي الأربعاء والخميس ... يأتي المدعوون من الرجال والنساء بعد صلاة المغرب ويبقون حتى منتصف الليل ... النساء يغنين ويرقصن ... فيما الزغاريد لا تتوقف ... أما الرجال فيجلسون على الأرض على 'جَنابي' ويستندون على مخدات ووسائد ... الكثير منهم يجلسون في حلقات يلعبون الشدة ... فيما البقية يتسامرون ويتجاذبون أطراف الحديث أما الضيافة فهي الشاي والعصير الذي كان يتم تحضيره في طناجر كبيرة إضافة إلى تقديم 'دخان' ريم وفيلادلفيا وجولد ستار .... لم تكن هناك أية مظاهر احتفالية للرجال فلا دبكات ولا دحية ولا حتى سماع أغان أو موسيقى ...
عصر يوم الخميس الذي يسبق يوم العرس تَوَجَهَتْ زرافات من النساء والفتيات إلى منزل والد العروس الذي يبعد قرابة خمسمائة متر عن بيتنا مشياً على الأقدام ... تحمل احداهن على رأسها طبقاً يحتوي على الحناء والورود وقطع السكاكر والشوكولاته ... وذلك لإقامة حفلة الحنا ... تَقَدَّمَ الجموع النسائية عدد محدود من الرجال ... فيما رددت النساء الأغنية التراثية المأثورة 'إحنا الدايْمِيَّاتْ بثياب الحَبَرْ ... وزلامنا قدامنا زي الوَزَرْ' ... أما أنا العريس والعبد الفقير إلى الله فلم أكن ضمن المرافقين فقد كنت منشغلاً بشراء العديد من مستلزمات العرس الضرورية والتي يجب تجهيزها قبل صباح الغد ....
كان يوم العرس يوماً حافلاً وطويلاً ... فَبُعَيدَ آذان الفجر توجه والدي مع عدد من المقربين إلى سوق الحلال لشراء الذبائح ... ولمتابعة عمليات الذبح والسلخ والتقطيع ... ليرجعوا إلى البيت بحدود الساعة الثامنة صباحاً ... فيجدوا في انتظارهم مجموعة كبيرة من رجال وشباب العائلة ... جاؤوا للمساعدة في تنظيف اللحم وغسيله ووضعه في القدور تمهيداً للمباشرة بعملية الطبخ ... فيما تقوم النساء في ذلك الوقت بتقطيع 'المعاليق' وطبخها مع البصل ... وتقديمها للحاضرين كوجبة إفطار لذيذة وشهية ... بعدها يتفرغ الرجال لطبخ وإنضاج اللحم والنساء لمرس لبن الجميد وطبخ الأرز ...
لعل أصعب طقوس يوم العرس هي عملية تحضير الطعام وتقديمه للجموع الكبيرة من المدعوين الذين يبدأون بالتوافد بعد صلاة الجمعة .... تكون البداية بإطعام الرجال ثم بعد ذلك الانتقال إلى النساء ... فِرَقٌ تقوم بإعداد المناسف فيما يتولى الشباب نقلها ووضعها أمام الضيوف وآخرون يتولون صب الشراب 'مرق اللحم مطبوخاً بلبن الجميد' على المناسف ... ومجموعة من الصبيان يحملون الأباريق والبشاكير لخدمة الراغبين بغسل أياديهم بعد الإنتهاء من الغداء ...
لا يتم تقديم الطعام إلا بعد 'تنقيط' العريس... وهو التقليد المعروف الذي يقوم المدعوون خلاله بتقديم مبالغ مالية بسيطة في الغالب للعريس كل حسب امكانياته المادية وحسب درجة القرابة أو العلاقة التي تربطه به .... يتم تحضير طاولة ووضع شرشف مناسب عليها وتجهيزها بكرسيين اثنين واحد للعريس والآخر لكاتب النقوط مع وضع مزهرية في المنتصف مع علبة من الشوكلاته أو السكاكر ودفتر وقلم ... يتوافد المدعوون الواحد بعد الآخر للسلام على العريس وتهنئته وتقديم 'النقوط' ... فيما يقوم الكاتب بتسجيل الأسماء والمبالغ المُقَدَّمة ... ولا يتردد الكاتب في السؤال عن اسم أيٍ من المدعوين إن لم يكن يعرفه من قبل ... كانت لحظة جلوسي على طاولة النقوط من أصعب اللحظات التي واجهتها في حياتي وأكثرها حَرَجاً ... ولكنها الأعراف والعادات والتقاليد ذات الفعل والتأثير الذي يفوق سطوة الكثير من القوانين والتشريعات ....
خمسة دنانير هي قيمة النقوط التي قًدَّمَها غالبية المدعوين فيما قِلَّةٌ قدموا دينارين أو ثلاثة دنانير وآخرون قدم كل منهم عشرة دنانير أما المبلغ الأكبر فبلغ ثلاثين ديناراً قدمه الصديق وزميل العمل أحمد يعقوب أبو عرب .... لتبلغ الحصيلة الاجمالية 499 دينار إضافة إلى شوالين سكر وشوال واحد أرز ... لم يكن النقوط طقساً بروتوكولياً أو مظهراً احتفالياً في الأعراس ... بل ممارسة نبيلة تعكس التضامن الاجتماعي ... وتشكل مصدراً اساسياً لتوفير جزء من تكاليف العرس ....
غادر الضيوف الأغراب وبقي المقربون ... وتَهَيَءَ الجميع للمغادرة إلى بيت العروس ... انطَلَقَتْ الفاردة تتقدمها سيارة أخي الداتسون 140J التي تم تزيينها لتكون السيارة التي تُقِلْ العروس ... فيما بَقيتُ وحدي في الصيوان ... فلم يكن من المسموح للعريس ان يرافق الفاردة إلى بيت العروس كان ذلك يعتبر عيباً وتصرفاً غير مقبول ... لا أنكر أنني كنت في غاية السعادة والسرور ولكنني كنت أيضاً متهيباً بعض الشيء ... كمن يهم بركوب الموج أو يُحَلَق بطائرة شراعية للمرة الأولى .....
لم تمضي إلا ساعة أو نحوها حتى عاد الجميع ... وَقَفْتُ على السطح أَرْقُبُهم من فتحة في زاوية الصيوان يهبطون المَمَرَ الطويل باتجاه البيت ... الرجال في المقدمة تتبعهم النساء وبينهن العروس بثوبها الأبيض تتقدم ببطء شديد ... وأصوات غناء النسوة تطرق الأسماع ... تنفست الصعداء في تلك اللحظة ... تَسَمَّرَتْ قدماي للحظات حيث أقف .... فيما قفز قلبي من بين الضلوع مُحَلِّقاً .... ليكون في استقبال الغوالي والأحباب ...
المهندس عادل بصبوص
لم تدم فترة الخطوبة سوى تسعة عشر يوماً فقط ... فترة قصيرة وغير كافية بكل المقاييس... إلا أن طبيعة أسرة خطيبتي المحافظة جداً ورغبتهم في أن لا تستمر فترة الخطبة طويلاً قد عَجَّلَت في اتمام الزفاف ... كنت أحج إلى منزل الخطيبة يومياً ... نجلس في الصالون ساعة او ساعتين نتجاذب أطراف الحديث بحضور أمها ... ريثما يحضر الوالد مساءً من عمله فتغادر الخطيبة الجلسة وأكمل مع الوالد لبعض الوقت ... لم تتح لنا الفرصة للجلوس بمفردنا ولو لدقائق معدودة ... إلا أنني وبعد مرور ما يزيد عن الأربعة عقود ما زلت أرى تلك الأيام الأجمل والأروع التي مررت بها على الإطلاق ...
كان لا بد من عمل حفلة لإشهار الخطبة في بيت أنسبائي ... كان من المتعارف عليه أن يقوم أهل العريس بعمل وليمة تشابه إلى حد كبير وليمة العرس ... حيث يتم ذبح الخراف وإيقاد النار تحت القدور وعمل المناسف للجميع ... لم أعد أتذكر من اقترح أن يتم الاكتفاء بتوزيع ما كان يعرف في ذلك الحين 'بالمَطْبَقَنِيَّاتْ' ومفردها 'مَطْبَقَنِيِّة' وهي عبارة عن قطعة زجاجية على شكل تحفة أو كأس توضع فيها حبات من الشوكلاته وتكون مُغَلَّفَةً بغطاء شفاف ... من جهتي رحبت بالفكرة من باب التوفير ... في حين تَرَدَدَ أهل الخطيبة في البداية ... فهم مع الفكرة لأنها سَتُريحهم من تَبِعاتْ إعداد الطعام وتقديمه في منزلهم ... وغير متحمسين لها في ذات الوقت خشية أن يمس ذلك بصورتهم أو مكانتهم أمام الجميع ... لم نكن في موقع الذي يملك الضغط أو التأثير على قرارهم ... لكنهم وافقوا في النهاية على الاكتفاء 'بالمَطْبَقَنِيَّاتْ' ... ممارسة نظر اليها الكثيرون في ذلك الوقت بشيء من الاستنكار وعدم الرضا ... إلا انها سرعان ما أصبحت التقليد المتبع في أغلب الأعراس لعدة سنوات قبل ان يتم الإقلاع عنها نهائياً ... والتوجه لإلغاء حفلة الخطبة بالكامل أو عملها على أضيق نطاق ...
كان أخي يقيم مع زوجته وأطفاله الثلاثة في إحدى غرف المنزل وكان عَلَيَّ أن أقيم بعد الزواج في غرفة أخرى فيما تقيم باقي العائلة في الغرفتين الباقيتين ... لم تعترض أسرة خطيبتي التي لم تكن مُتَطَلِّبَةً على الإطلاق على اقامة ابنتها في غرفة واحدة مع العائلة فقد كان ذلك مقبولاً ومألوفاً جداً في تلك الأيام ...
تم تحديد موعد العرس في أواخر شهر آب وقد حَرِصْتُ عند طباعة بطاقات الدعوة أن أكتب اسم خطيبتي الصريح على البطاقة مخالفاً بذلك ما كان سائداً في ذلك الوقت باستبدال اسم العروس 'بكريمته'...
لم تكن ظاهرة إقامة الأفراح في الصالات قد انتشرت بعد ... لذا كان علينا أن نُهَيِّءَ المنزل لإقامة حفلة ومراسيم العرس ... تم عمل 'صيوان' على السطح من خشب الطوبار مع أغطية مناسبة ليكون المكان الذي يستقبل الضيوف الرجال في السهرات ويكون مكان تقديم الغداء يوم العرس ... كما تم تجهيز غرفة الصالون الواسعة بوضع الزينة والبلالين والكرنيش بحيث يكون مكاناً لغناء ورقص السيدات في السهرات ولحفلة العرس بعد قدوم العروس وجلوسها على 'اللوج مَصْمودَةً' بجانب عريسها ... 'اللوج' الذي لم يكن سوى طاولة مستطيلة عليها شرشف وفَوْقها كرسيين اثنين وخلفهما سجادة مثبتة على الجدار كالتي يحضرها القادمون من الحج .... عليها صور الحرمين الشريفين ...
بدأت السهرات مساء الثلاثاء واستمرت يومي الأربعاء والخميس ... يأتي المدعوون من الرجال والنساء بعد صلاة المغرب ويبقون حتى منتصف الليل ... النساء يغنين ويرقصن ... فيما الزغاريد لا تتوقف ... أما الرجال فيجلسون على الأرض على 'جَنابي' ويستندون على مخدات ووسائد ... الكثير منهم يجلسون في حلقات يلعبون الشدة ... فيما البقية يتسامرون ويتجاذبون أطراف الحديث أما الضيافة فهي الشاي والعصير الذي كان يتم تحضيره في طناجر كبيرة إضافة إلى تقديم 'دخان' ريم وفيلادلفيا وجولد ستار .... لم تكن هناك أية مظاهر احتفالية للرجال فلا دبكات ولا دحية ولا حتى سماع أغان أو موسيقى ...
عصر يوم الخميس الذي يسبق يوم العرس تَوَجَهَتْ زرافات من النساء والفتيات إلى منزل والد العروس الذي يبعد قرابة خمسمائة متر عن بيتنا مشياً على الأقدام ... تحمل احداهن على رأسها طبقاً يحتوي على الحناء والورود وقطع السكاكر والشوكولاته ... وذلك لإقامة حفلة الحنا ... تَقَدَّمَ الجموع النسائية عدد محدود من الرجال ... فيما رددت النساء الأغنية التراثية المأثورة 'إحنا الدايْمِيَّاتْ بثياب الحَبَرْ ... وزلامنا قدامنا زي الوَزَرْ' ... أما أنا العريس والعبد الفقير إلى الله فلم أكن ضمن المرافقين فقد كنت منشغلاً بشراء العديد من مستلزمات العرس الضرورية والتي يجب تجهيزها قبل صباح الغد ....
كان يوم العرس يوماً حافلاً وطويلاً ... فَبُعَيدَ آذان الفجر توجه والدي مع عدد من المقربين إلى سوق الحلال لشراء الذبائح ... ولمتابعة عمليات الذبح والسلخ والتقطيع ... ليرجعوا إلى البيت بحدود الساعة الثامنة صباحاً ... فيجدوا في انتظارهم مجموعة كبيرة من رجال وشباب العائلة ... جاؤوا للمساعدة في تنظيف اللحم وغسيله ووضعه في القدور تمهيداً للمباشرة بعملية الطبخ ... فيما تقوم النساء في ذلك الوقت بتقطيع 'المعاليق' وطبخها مع البصل ... وتقديمها للحاضرين كوجبة إفطار لذيذة وشهية ... بعدها يتفرغ الرجال لطبخ وإنضاج اللحم والنساء لمرس لبن الجميد وطبخ الأرز ...
لعل أصعب طقوس يوم العرس هي عملية تحضير الطعام وتقديمه للجموع الكبيرة من المدعوين الذين يبدأون بالتوافد بعد صلاة الجمعة .... تكون البداية بإطعام الرجال ثم بعد ذلك الانتقال إلى النساء ... فِرَقٌ تقوم بإعداد المناسف فيما يتولى الشباب نقلها ووضعها أمام الضيوف وآخرون يتولون صب الشراب 'مرق اللحم مطبوخاً بلبن الجميد' على المناسف ... ومجموعة من الصبيان يحملون الأباريق والبشاكير لخدمة الراغبين بغسل أياديهم بعد الإنتهاء من الغداء ...
لا يتم تقديم الطعام إلا بعد 'تنقيط' العريس... وهو التقليد المعروف الذي يقوم المدعوون خلاله بتقديم مبالغ مالية بسيطة في الغالب للعريس كل حسب امكانياته المادية وحسب درجة القرابة أو العلاقة التي تربطه به .... يتم تحضير طاولة ووضع شرشف مناسب عليها وتجهيزها بكرسيين اثنين واحد للعريس والآخر لكاتب النقوط مع وضع مزهرية في المنتصف مع علبة من الشوكلاته أو السكاكر ودفتر وقلم ... يتوافد المدعوون الواحد بعد الآخر للسلام على العريس وتهنئته وتقديم 'النقوط' ... فيما يقوم الكاتب بتسجيل الأسماء والمبالغ المُقَدَّمة ... ولا يتردد الكاتب في السؤال عن اسم أيٍ من المدعوين إن لم يكن يعرفه من قبل ... كانت لحظة جلوسي على طاولة النقوط من أصعب اللحظات التي واجهتها في حياتي وأكثرها حَرَجاً ... ولكنها الأعراف والعادات والتقاليد ذات الفعل والتأثير الذي يفوق سطوة الكثير من القوانين والتشريعات ....
خمسة دنانير هي قيمة النقوط التي قًدَّمَها غالبية المدعوين فيما قِلَّةٌ قدموا دينارين أو ثلاثة دنانير وآخرون قدم كل منهم عشرة دنانير أما المبلغ الأكبر فبلغ ثلاثين ديناراً قدمه الصديق وزميل العمل أحمد يعقوب أبو عرب .... لتبلغ الحصيلة الاجمالية 499 دينار إضافة إلى شوالين سكر وشوال واحد أرز ... لم يكن النقوط طقساً بروتوكولياً أو مظهراً احتفالياً في الأعراس ... بل ممارسة نبيلة تعكس التضامن الاجتماعي ... وتشكل مصدراً اساسياً لتوفير جزء من تكاليف العرس ....
غادر الضيوف الأغراب وبقي المقربون ... وتَهَيَءَ الجميع للمغادرة إلى بيت العروس ... انطَلَقَتْ الفاردة تتقدمها سيارة أخي الداتسون 140J التي تم تزيينها لتكون السيارة التي تُقِلْ العروس ... فيما بَقيتُ وحدي في الصيوان ... فلم يكن من المسموح للعريس ان يرافق الفاردة إلى بيت العروس كان ذلك يعتبر عيباً وتصرفاً غير مقبول ... لا أنكر أنني كنت في غاية السعادة والسرور ولكنني كنت أيضاً متهيباً بعض الشيء ... كمن يهم بركوب الموج أو يُحَلَق بطائرة شراعية للمرة الأولى .....
لم تمضي إلا ساعة أو نحوها حتى عاد الجميع ... وَقَفْتُ على السطح أَرْقُبُهم من فتحة في زاوية الصيوان يهبطون المَمَرَ الطويل باتجاه البيت ... الرجال في المقدمة تتبعهم النساء وبينهن العروس بثوبها الأبيض تتقدم ببطء شديد ... وأصوات غناء النسوة تطرق الأسماع ... تنفست الصعداء في تلك اللحظة ... تَسَمَّرَتْ قدماي للحظات حيث أقف .... فيما قفز قلبي من بين الضلوع مُحَلِّقاً .... ليكون في استقبال الغوالي والأحباب ...
المهندس عادل بصبوص
لم تدم فترة الخطوبة سوى تسعة عشر يوماً فقط ... فترة قصيرة وغير كافية بكل المقاييس... إلا أن طبيعة أسرة خطيبتي المحافظة جداً ورغبتهم في أن لا تستمر فترة الخطبة طويلاً قد عَجَّلَت في اتمام الزفاف ... كنت أحج إلى منزل الخطيبة يومياً ... نجلس في الصالون ساعة او ساعتين نتجاذب أطراف الحديث بحضور أمها ... ريثما يحضر الوالد مساءً من عمله فتغادر الخطيبة الجلسة وأكمل مع الوالد لبعض الوقت ... لم تتح لنا الفرصة للجلوس بمفردنا ولو لدقائق معدودة ... إلا أنني وبعد مرور ما يزيد عن الأربعة عقود ما زلت أرى تلك الأيام الأجمل والأروع التي مررت بها على الإطلاق ...
كان لا بد من عمل حفلة لإشهار الخطبة في بيت أنسبائي ... كان من المتعارف عليه أن يقوم أهل العريس بعمل وليمة تشابه إلى حد كبير وليمة العرس ... حيث يتم ذبح الخراف وإيقاد النار تحت القدور وعمل المناسف للجميع ... لم أعد أتذكر من اقترح أن يتم الاكتفاء بتوزيع ما كان يعرف في ذلك الحين 'بالمَطْبَقَنِيَّاتْ' ومفردها 'مَطْبَقَنِيِّة' وهي عبارة عن قطعة زجاجية على شكل تحفة أو كأس توضع فيها حبات من الشوكلاته وتكون مُغَلَّفَةً بغطاء شفاف ... من جهتي رحبت بالفكرة من باب التوفير ... في حين تَرَدَدَ أهل الخطيبة في البداية ... فهم مع الفكرة لأنها سَتُريحهم من تَبِعاتْ إعداد الطعام وتقديمه في منزلهم ... وغير متحمسين لها في ذات الوقت خشية أن يمس ذلك بصورتهم أو مكانتهم أمام الجميع ... لم نكن في موقع الذي يملك الضغط أو التأثير على قرارهم ... لكنهم وافقوا في النهاية على الاكتفاء 'بالمَطْبَقَنِيَّاتْ' ... ممارسة نظر اليها الكثيرون في ذلك الوقت بشيء من الاستنكار وعدم الرضا ... إلا انها سرعان ما أصبحت التقليد المتبع في أغلب الأعراس لعدة سنوات قبل ان يتم الإقلاع عنها نهائياً ... والتوجه لإلغاء حفلة الخطبة بالكامل أو عملها على أضيق نطاق ...
كان أخي يقيم مع زوجته وأطفاله الثلاثة في إحدى غرف المنزل وكان عَلَيَّ أن أقيم بعد الزواج في غرفة أخرى فيما تقيم باقي العائلة في الغرفتين الباقيتين ... لم تعترض أسرة خطيبتي التي لم تكن مُتَطَلِّبَةً على الإطلاق على اقامة ابنتها في غرفة واحدة مع العائلة فقد كان ذلك مقبولاً ومألوفاً جداً في تلك الأيام ...
تم تحديد موعد العرس في أواخر شهر آب وقد حَرِصْتُ عند طباعة بطاقات الدعوة أن أكتب اسم خطيبتي الصريح على البطاقة مخالفاً بذلك ما كان سائداً في ذلك الوقت باستبدال اسم العروس 'بكريمته'...
لم تكن ظاهرة إقامة الأفراح في الصالات قد انتشرت بعد ... لذا كان علينا أن نُهَيِّءَ المنزل لإقامة حفلة ومراسيم العرس ... تم عمل 'صيوان' على السطح من خشب الطوبار مع أغطية مناسبة ليكون المكان الذي يستقبل الضيوف الرجال في السهرات ويكون مكان تقديم الغداء يوم العرس ... كما تم تجهيز غرفة الصالون الواسعة بوضع الزينة والبلالين والكرنيش بحيث يكون مكاناً لغناء ورقص السيدات في السهرات ولحفلة العرس بعد قدوم العروس وجلوسها على 'اللوج مَصْمودَةً' بجانب عريسها ... 'اللوج' الذي لم يكن سوى طاولة مستطيلة عليها شرشف وفَوْقها كرسيين اثنين وخلفهما سجادة مثبتة على الجدار كالتي يحضرها القادمون من الحج .... عليها صور الحرمين الشريفين ...
بدأت السهرات مساء الثلاثاء واستمرت يومي الأربعاء والخميس ... يأتي المدعوون من الرجال والنساء بعد صلاة المغرب ويبقون حتى منتصف الليل ... النساء يغنين ويرقصن ... فيما الزغاريد لا تتوقف ... أما الرجال فيجلسون على الأرض على 'جَنابي' ويستندون على مخدات ووسائد ... الكثير منهم يجلسون في حلقات يلعبون الشدة ... فيما البقية يتسامرون ويتجاذبون أطراف الحديث أما الضيافة فهي الشاي والعصير الذي كان يتم تحضيره في طناجر كبيرة إضافة إلى تقديم 'دخان' ريم وفيلادلفيا وجولد ستار .... لم تكن هناك أية مظاهر احتفالية للرجال فلا دبكات ولا دحية ولا حتى سماع أغان أو موسيقى ...
عصر يوم الخميس الذي يسبق يوم العرس تَوَجَهَتْ زرافات من النساء والفتيات إلى منزل والد العروس الذي يبعد قرابة خمسمائة متر عن بيتنا مشياً على الأقدام ... تحمل احداهن على رأسها طبقاً يحتوي على الحناء والورود وقطع السكاكر والشوكولاته ... وذلك لإقامة حفلة الحنا ... تَقَدَّمَ الجموع النسائية عدد محدود من الرجال ... فيما رددت النساء الأغنية التراثية المأثورة 'إحنا الدايْمِيَّاتْ بثياب الحَبَرْ ... وزلامنا قدامنا زي الوَزَرْ' ... أما أنا العريس والعبد الفقير إلى الله فلم أكن ضمن المرافقين فقد كنت منشغلاً بشراء العديد من مستلزمات العرس الضرورية والتي يجب تجهيزها قبل صباح الغد ....
كان يوم العرس يوماً حافلاً وطويلاً ... فَبُعَيدَ آذان الفجر توجه والدي مع عدد من المقربين إلى سوق الحلال لشراء الذبائح ... ولمتابعة عمليات الذبح والسلخ والتقطيع ... ليرجعوا إلى البيت بحدود الساعة الثامنة صباحاً ... فيجدوا في انتظارهم مجموعة كبيرة من رجال وشباب العائلة ... جاؤوا للمساعدة في تنظيف اللحم وغسيله ووضعه في القدور تمهيداً للمباشرة بعملية الطبخ ... فيما تقوم النساء في ذلك الوقت بتقطيع 'المعاليق' وطبخها مع البصل ... وتقديمها للحاضرين كوجبة إفطار لذيذة وشهية ... بعدها يتفرغ الرجال لطبخ وإنضاج اللحم والنساء لمرس لبن الجميد وطبخ الأرز ...
لعل أصعب طقوس يوم العرس هي عملية تحضير الطعام وتقديمه للجموع الكبيرة من المدعوين الذين يبدأون بالتوافد بعد صلاة الجمعة .... تكون البداية بإطعام الرجال ثم بعد ذلك الانتقال إلى النساء ... فِرَقٌ تقوم بإعداد المناسف فيما يتولى الشباب نقلها ووضعها أمام الضيوف وآخرون يتولون صب الشراب 'مرق اللحم مطبوخاً بلبن الجميد' على المناسف ... ومجموعة من الصبيان يحملون الأباريق والبشاكير لخدمة الراغبين بغسل أياديهم بعد الإنتهاء من الغداء ...
لا يتم تقديم الطعام إلا بعد 'تنقيط' العريس... وهو التقليد المعروف الذي يقوم المدعوون خلاله بتقديم مبالغ مالية بسيطة في الغالب للعريس كل حسب امكانياته المادية وحسب درجة القرابة أو العلاقة التي تربطه به .... يتم تحضير طاولة ووضع شرشف مناسب عليها وتجهيزها بكرسيين اثنين واحد للعريس والآخر لكاتب النقوط مع وضع مزهرية في المنتصف مع علبة من الشوكلاته أو السكاكر ودفتر وقلم ... يتوافد المدعوون الواحد بعد الآخر للسلام على العريس وتهنئته وتقديم 'النقوط' ... فيما يقوم الكاتب بتسجيل الأسماء والمبالغ المُقَدَّمة ... ولا يتردد الكاتب في السؤال عن اسم أيٍ من المدعوين إن لم يكن يعرفه من قبل ... كانت لحظة جلوسي على طاولة النقوط من أصعب اللحظات التي واجهتها في حياتي وأكثرها حَرَجاً ... ولكنها الأعراف والعادات والتقاليد ذات الفعل والتأثير الذي يفوق سطوة الكثير من القوانين والتشريعات ....
خمسة دنانير هي قيمة النقوط التي قًدَّمَها غالبية المدعوين فيما قِلَّةٌ قدموا دينارين أو ثلاثة دنانير وآخرون قدم كل منهم عشرة دنانير أما المبلغ الأكبر فبلغ ثلاثين ديناراً قدمه الصديق وزميل العمل أحمد يعقوب أبو عرب .... لتبلغ الحصيلة الاجمالية 499 دينار إضافة إلى شوالين سكر وشوال واحد أرز ... لم يكن النقوط طقساً بروتوكولياً أو مظهراً احتفالياً في الأعراس ... بل ممارسة نبيلة تعكس التضامن الاجتماعي ... وتشكل مصدراً اساسياً لتوفير جزء من تكاليف العرس ....
غادر الضيوف الأغراب وبقي المقربون ... وتَهَيَءَ الجميع للمغادرة إلى بيت العروس ... انطَلَقَتْ الفاردة تتقدمها سيارة أخي الداتسون 140J التي تم تزيينها لتكون السيارة التي تُقِلْ العروس ... فيما بَقيتُ وحدي في الصيوان ... فلم يكن من المسموح للعريس ان يرافق الفاردة إلى بيت العروس كان ذلك يعتبر عيباً وتصرفاً غير مقبول ... لا أنكر أنني كنت في غاية السعادة والسرور ولكنني كنت أيضاً متهيباً بعض الشيء ... كمن يهم بركوب الموج أو يُحَلَق بطائرة شراعية للمرة الأولى .....
لم تمضي إلا ساعة أو نحوها حتى عاد الجميع ... وَقَفْتُ على السطح أَرْقُبُهم من فتحة في زاوية الصيوان يهبطون المَمَرَ الطويل باتجاه البيت ... الرجال في المقدمة تتبعهم النساء وبينهن العروس بثوبها الأبيض تتقدم ببطء شديد ... وأصوات غناء النسوة تطرق الأسماع ... تنفست الصعداء في تلك اللحظة ... تَسَمَّرَتْ قدماي للحظات حيث أقف .... فيما قفز قلبي من بين الضلوع مُحَلِّقاً .... ليكون في استقبال الغوالي والأحباب ...
التعليقات