في خطوة تصعيدية يشهد العالم اليوم حالةً من الاضطراب المتصاعد على مختلف الجبهات السياسية والاقتصادية، ويتجلّى ذلك بوضوح في طيفٍ واسعٍ من المؤشرات التي تنذر بمزيدٍ من التوتر وعدم الاستقرار. فالتوجهات الحمائية الأمريكية، التي تعود إلى الواجهة ، ما تزال قائمةً في شكل بدء الحروبٍ تجارية والتعريفات الجمركية المتبادلة، خصوصًا مع الصين. هذه السياسات لا تقتصر انعكاساتها على العلاقة بين أكبر اقتصادين في العالم فحسب، بل تمتد لتشمل جميع أركان النظام الاقتصادي الدولي، إذ تسبّبت القيود التجارية والتحركات الحمائية في تراجع ثقة المستثمرين، واضطراب سلاسل التوريد، وارتفاع تكاليف التصنيع في مختلف أنحاء العالم، إضافةً إلى خطر حدوث ركود عالمي إذا ما استمرت الدوامة بلا ضابطٍ أو اتفاقٍ ملزم.
يتزامن هذا التنافس الاقتصادي مع مشهدٍ دولي أكثر تعقيدًا بفعل صراعٍ جيوسياسي في مناطق عدّة، أبرزها الشرق الأوسط ، فهنا تلتقي المصالح الدولية وتتقاطع بقعةً جغرافيةً غنيةً بحقول الطاقة، وتتأثر بأسواق الاستهلاك الكبرى، وتنشغل ببؤر نزاعٍ مزمنة. وفي مقدّمة هذه النزاعات يقف التصعيد الإسرائيلي المتواصل في قطاع غزة وسوريا، والتوتر الذي ينذر بانفجارٍ أوسع إذا ما قررت أطرافٌ أخرى الانخراط للدفاع عن مصالحها أو لكبح النفوذ الإسرائيلي. إنّ القلق الإقليمي والدولي من توسّع رقعة المواجهة العسكرية يظل حاضرًا، مما يزيد من حالة الارتياب لدى دوائر الاستثمار والتمويل التي تبحث عمومًا عن بيئات مستقرة. ومع توالي الأزمات الدولية التي عزّزتها تداعيات الجائحة ثم الحرب الروسية الأوكرانية، تتفاقم المخاوف من تحول حالة عدم اليقين الحالية إلى ركودٍ اقتصادي عميق أو أزمة ممتدة ذات تأثير قاس على الشعوب والحكومات.
في هذا المشهد الملبّد بالأزمات، يجد الأردن نفسه ضمن دائرةٍ إقليميةٍ تموج بالأحداث والتقلبات؛ فهو يرتبط تاريخيًا باتفاقيات تجارية مهمة مع الولايات المتحدة وأوروبا، كما يسعى جاهدًا إلى زيادة صادراته وجذب استثماراتٍ جديدةٍ تعينُه على تجاوز تحدياته الاقتصادية المزمنة، كارتفاع معدلات البطالة والدَّين العام. ومع ذلك، فإنّ التغيرات المفاجئة في السياسة التجارية الأمريكية – على غرار فرض رسومٍ جمركيةٍ شاملةٍ وغير منسّقة – قد تحدّ من قدرة المنتجات الأردنية على المنافسة في سوقٍ تعتمد عليها عمّان لتصريف جزءٍ مهمٍ من صادراتها، إضافةً إلى ذلك، قد يتأثر الأردن بديناميّات التوتر العالمي حين يتوجه المستثمرون نحو وجهاتٍ أكثر استقرارًا أو يفضّلون الترقب بدل المغامرة في بيئاتٍ قريبةٍ من مناطق النزاع. ورغم ما تتمتع به المملكة من استقرارٍ نسبي وسُمعةٍ سياسية متّزنة، فإنّ تحدياتها الداخلية الاقتصادية والاجتماعية تجعلها بحاجة ماسّة إلى شراكات دولية وإقليمية قوية ومطمئِنة.
يتضافر هذا الجانب مع بعدٍ آخر لا يقل أهميةً عن الاقتصاد، وهو البعد الأمني، فالتصعيد الإسرائيلي في سوريا وغزة خصوصاً يخلق موجاتٍ من الغموض ويعيد تسليط الضوء على قضايا المنطقة العالقة، خصوصًا القضية الفلسطينية. إذ يؤدي استمرار الحصار والهجمات إلى ارتفاع عدد الضحايا وتدمير البنية التحتية، ويضاعف معاناة السكان. ولا يتوقف الأثر عند الحدود الفلسطينية، بل ينعكس مباشرةً على الأردن في صورة متعددة تضيف مزيدًا من الضغط على صناع القرار في عمّان، وتجعل مسألة الأمن الحدودي وإدارة موجات اللجوء المحتملة محور انشغال دائم.
من جهةٍ أخرى، قد تُسهم الأزمة الاقتصادية العالمية المحتملة في خفض أسعار النفط بفضل تراجع الطلب، وهو ما يمكن أن يفيد الأردن بوصفه مستوردًا للطاقة، لكنه يضرُّ بدولٍ نفطية شريكة قد تتقلّص قدراتها الاستثمارية أو تنشغل بمعالجة مصاعبها المحلية بدل دعم اقتصادات الجوار. ومن الوارد أن تتخذ الصين ودولٌ آسيويةٌ أخرى إجراءاتٍ توسعية لتعزيز نفوذها في الأسواق الناشئة، بما فيها الشرق الأوسط، لتعويض خسائر الحرب التجارية مع الولايات المتحدة. وإذا أحسنت دول الإقليم – ومنها الأردن – انتهاز الفرص الناشئة في تلك الشراكات البديلة (سواءٌ على صعيد الاستثمار الصناعي أو تعزيز المبادرات التكنولوجية)، فقد تتمكن من تقليل الاعتماد المفرط على السوق الأمريكية والأوروبية، وضمان تنوّعٍ أكبر في وجهات صادراتها.
على ضوء ذلك، تبدو الصورة أكثر تعقيدًا، إذ إن التعويل على حلولٍ سريعةٍ أو انفراجات تامة غير منطقي في ظل التقاء الأزمات المالية والصراعات السياسية. ومع هذا، فإنّ الباب لم يُغلق أمام جهودٍ دبلوماسية دولية أو حوارات اقتصادية يمكن أن تخفف من حدّة هذه التوترات. وإذا تراخت القبضة الحمائية الأمريكية والصينية عبر اتفاقٍ تجاري ما، فإنّ وطأة المخاوف من الركود قد تتراجع قليلًا، ويسمح ذلك للاقتصادات الناشئة بالتقاط أنفاسها، ومن ضمنها الأردن. أما في المنطقة العربية، فقد بات ضروريًا تعزيز التعاون الاقتصادي الإقليمي وسعي الحكومات إلى بناء روافد جديدةٍ من التكامل، بحيث تزيد فرص جذب الاستثمارات وتوسيع الأسواق الداخلية وتعزيز الامن الغذائي والاعتماد على الذات، عوضًا عن الارتهان لعلاقات خارجية غير مستقرة بحكم التشابكات الدولية المعقدة.
لا ريب أنّ الشرق الأوسط يعيش تاريخيًا بين ثنايا الصراعات، وقد تكون المرحلة المقبلة محفوفةً بتقلبات أشدّ في حال استمرّ التصعيد الإسرائيلي وغابت أيّ جهود جديّة للتسوية. كما قد يجرّ التنافس بين القوى الكبرى مظلّة الأزمات السياسية نحو مساراتٍ أكثر وعورة. في المقابل، فإنّ الأردن يستطيع أن يظلّ محافظًا على موقعه الوسطي والدبلوماسي، ويستثمر استقراره النسبي لتعزيز قدراته الإنتاجية والسياحية والزراعية واللوجستية، وليقدّم نفسه منصةً آمنةً للشركات الراغبة في توسيع أعمالها داخل المنطقة. وحتى يتحقق ذلك، يحتاج المسؤولون الأردنيون إلى تكثيف إصلاحاتهم الاقتصادية، وتحسين بيئة الأعمال، وتقليل زمن الإجراءات البيروقراطية، فضلًا عن تدعيم البنية التحتية. وهي مهمّة ليست سهلة في مناخٍ دولي مُقلق، لكنها تبقى الخيار الأنجع لتأمين مستقبلٍ أكثر استقرارًا وازدهارًا يضمن للمملكة وللمنطقة تفادي الانزلاق نحو حالةٍ أشمل من الفوضى أو الركود الطويل الأمد.
الدكتور ليث عبدالله القهيوي
في خطوة تصعيدية يشهد العالم اليوم حالةً من الاضطراب المتصاعد على مختلف الجبهات السياسية والاقتصادية، ويتجلّى ذلك بوضوح في طيفٍ واسعٍ من المؤشرات التي تنذر بمزيدٍ من التوتر وعدم الاستقرار. فالتوجهات الحمائية الأمريكية، التي تعود إلى الواجهة ، ما تزال قائمةً في شكل بدء الحروبٍ تجارية والتعريفات الجمركية المتبادلة، خصوصًا مع الصين. هذه السياسات لا تقتصر انعكاساتها على العلاقة بين أكبر اقتصادين في العالم فحسب، بل تمتد لتشمل جميع أركان النظام الاقتصادي الدولي، إذ تسبّبت القيود التجارية والتحركات الحمائية في تراجع ثقة المستثمرين، واضطراب سلاسل التوريد، وارتفاع تكاليف التصنيع في مختلف أنحاء العالم، إضافةً إلى خطر حدوث ركود عالمي إذا ما استمرت الدوامة بلا ضابطٍ أو اتفاقٍ ملزم.
يتزامن هذا التنافس الاقتصادي مع مشهدٍ دولي أكثر تعقيدًا بفعل صراعٍ جيوسياسي في مناطق عدّة، أبرزها الشرق الأوسط ، فهنا تلتقي المصالح الدولية وتتقاطع بقعةً جغرافيةً غنيةً بحقول الطاقة، وتتأثر بأسواق الاستهلاك الكبرى، وتنشغل ببؤر نزاعٍ مزمنة. وفي مقدّمة هذه النزاعات يقف التصعيد الإسرائيلي المتواصل في قطاع غزة وسوريا، والتوتر الذي ينذر بانفجارٍ أوسع إذا ما قررت أطرافٌ أخرى الانخراط للدفاع عن مصالحها أو لكبح النفوذ الإسرائيلي. إنّ القلق الإقليمي والدولي من توسّع رقعة المواجهة العسكرية يظل حاضرًا، مما يزيد من حالة الارتياب لدى دوائر الاستثمار والتمويل التي تبحث عمومًا عن بيئات مستقرة. ومع توالي الأزمات الدولية التي عزّزتها تداعيات الجائحة ثم الحرب الروسية الأوكرانية، تتفاقم المخاوف من تحول حالة عدم اليقين الحالية إلى ركودٍ اقتصادي عميق أو أزمة ممتدة ذات تأثير قاس على الشعوب والحكومات.
في هذا المشهد الملبّد بالأزمات، يجد الأردن نفسه ضمن دائرةٍ إقليميةٍ تموج بالأحداث والتقلبات؛ فهو يرتبط تاريخيًا باتفاقيات تجارية مهمة مع الولايات المتحدة وأوروبا، كما يسعى جاهدًا إلى زيادة صادراته وجذب استثماراتٍ جديدةٍ تعينُه على تجاوز تحدياته الاقتصادية المزمنة، كارتفاع معدلات البطالة والدَّين العام. ومع ذلك، فإنّ التغيرات المفاجئة في السياسة التجارية الأمريكية – على غرار فرض رسومٍ جمركيةٍ شاملةٍ وغير منسّقة – قد تحدّ من قدرة المنتجات الأردنية على المنافسة في سوقٍ تعتمد عليها عمّان لتصريف جزءٍ مهمٍ من صادراتها، إضافةً إلى ذلك، قد يتأثر الأردن بديناميّات التوتر العالمي حين يتوجه المستثمرون نحو وجهاتٍ أكثر استقرارًا أو يفضّلون الترقب بدل المغامرة في بيئاتٍ قريبةٍ من مناطق النزاع. ورغم ما تتمتع به المملكة من استقرارٍ نسبي وسُمعةٍ سياسية متّزنة، فإنّ تحدياتها الداخلية الاقتصادية والاجتماعية تجعلها بحاجة ماسّة إلى شراكات دولية وإقليمية قوية ومطمئِنة.
يتضافر هذا الجانب مع بعدٍ آخر لا يقل أهميةً عن الاقتصاد، وهو البعد الأمني، فالتصعيد الإسرائيلي في سوريا وغزة خصوصاً يخلق موجاتٍ من الغموض ويعيد تسليط الضوء على قضايا المنطقة العالقة، خصوصًا القضية الفلسطينية. إذ يؤدي استمرار الحصار والهجمات إلى ارتفاع عدد الضحايا وتدمير البنية التحتية، ويضاعف معاناة السكان. ولا يتوقف الأثر عند الحدود الفلسطينية، بل ينعكس مباشرةً على الأردن في صورة متعددة تضيف مزيدًا من الضغط على صناع القرار في عمّان، وتجعل مسألة الأمن الحدودي وإدارة موجات اللجوء المحتملة محور انشغال دائم.
من جهةٍ أخرى، قد تُسهم الأزمة الاقتصادية العالمية المحتملة في خفض أسعار النفط بفضل تراجع الطلب، وهو ما يمكن أن يفيد الأردن بوصفه مستوردًا للطاقة، لكنه يضرُّ بدولٍ نفطية شريكة قد تتقلّص قدراتها الاستثمارية أو تنشغل بمعالجة مصاعبها المحلية بدل دعم اقتصادات الجوار. ومن الوارد أن تتخذ الصين ودولٌ آسيويةٌ أخرى إجراءاتٍ توسعية لتعزيز نفوذها في الأسواق الناشئة، بما فيها الشرق الأوسط، لتعويض خسائر الحرب التجارية مع الولايات المتحدة. وإذا أحسنت دول الإقليم – ومنها الأردن – انتهاز الفرص الناشئة في تلك الشراكات البديلة (سواءٌ على صعيد الاستثمار الصناعي أو تعزيز المبادرات التكنولوجية)، فقد تتمكن من تقليل الاعتماد المفرط على السوق الأمريكية والأوروبية، وضمان تنوّعٍ أكبر في وجهات صادراتها.
على ضوء ذلك، تبدو الصورة أكثر تعقيدًا، إذ إن التعويل على حلولٍ سريعةٍ أو انفراجات تامة غير منطقي في ظل التقاء الأزمات المالية والصراعات السياسية. ومع هذا، فإنّ الباب لم يُغلق أمام جهودٍ دبلوماسية دولية أو حوارات اقتصادية يمكن أن تخفف من حدّة هذه التوترات. وإذا تراخت القبضة الحمائية الأمريكية والصينية عبر اتفاقٍ تجاري ما، فإنّ وطأة المخاوف من الركود قد تتراجع قليلًا، ويسمح ذلك للاقتصادات الناشئة بالتقاط أنفاسها، ومن ضمنها الأردن. أما في المنطقة العربية، فقد بات ضروريًا تعزيز التعاون الاقتصادي الإقليمي وسعي الحكومات إلى بناء روافد جديدةٍ من التكامل، بحيث تزيد فرص جذب الاستثمارات وتوسيع الأسواق الداخلية وتعزيز الامن الغذائي والاعتماد على الذات، عوضًا عن الارتهان لعلاقات خارجية غير مستقرة بحكم التشابكات الدولية المعقدة.
لا ريب أنّ الشرق الأوسط يعيش تاريخيًا بين ثنايا الصراعات، وقد تكون المرحلة المقبلة محفوفةً بتقلبات أشدّ في حال استمرّ التصعيد الإسرائيلي وغابت أيّ جهود جديّة للتسوية. كما قد يجرّ التنافس بين القوى الكبرى مظلّة الأزمات السياسية نحو مساراتٍ أكثر وعورة. في المقابل، فإنّ الأردن يستطيع أن يظلّ محافظًا على موقعه الوسطي والدبلوماسي، ويستثمر استقراره النسبي لتعزيز قدراته الإنتاجية والسياحية والزراعية واللوجستية، وليقدّم نفسه منصةً آمنةً للشركات الراغبة في توسيع أعمالها داخل المنطقة. وحتى يتحقق ذلك، يحتاج المسؤولون الأردنيون إلى تكثيف إصلاحاتهم الاقتصادية، وتحسين بيئة الأعمال، وتقليل زمن الإجراءات البيروقراطية، فضلًا عن تدعيم البنية التحتية. وهي مهمّة ليست سهلة في مناخٍ دولي مُقلق، لكنها تبقى الخيار الأنجع لتأمين مستقبلٍ أكثر استقرارًا وازدهارًا يضمن للمملكة وللمنطقة تفادي الانزلاق نحو حالةٍ أشمل من الفوضى أو الركود الطويل الأمد.
الدكتور ليث عبدالله القهيوي
في خطوة تصعيدية يشهد العالم اليوم حالةً من الاضطراب المتصاعد على مختلف الجبهات السياسية والاقتصادية، ويتجلّى ذلك بوضوح في طيفٍ واسعٍ من المؤشرات التي تنذر بمزيدٍ من التوتر وعدم الاستقرار. فالتوجهات الحمائية الأمريكية، التي تعود إلى الواجهة ، ما تزال قائمةً في شكل بدء الحروبٍ تجارية والتعريفات الجمركية المتبادلة، خصوصًا مع الصين. هذه السياسات لا تقتصر انعكاساتها على العلاقة بين أكبر اقتصادين في العالم فحسب، بل تمتد لتشمل جميع أركان النظام الاقتصادي الدولي، إذ تسبّبت القيود التجارية والتحركات الحمائية في تراجع ثقة المستثمرين، واضطراب سلاسل التوريد، وارتفاع تكاليف التصنيع في مختلف أنحاء العالم، إضافةً إلى خطر حدوث ركود عالمي إذا ما استمرت الدوامة بلا ضابطٍ أو اتفاقٍ ملزم.
يتزامن هذا التنافس الاقتصادي مع مشهدٍ دولي أكثر تعقيدًا بفعل صراعٍ جيوسياسي في مناطق عدّة، أبرزها الشرق الأوسط ، فهنا تلتقي المصالح الدولية وتتقاطع بقعةً جغرافيةً غنيةً بحقول الطاقة، وتتأثر بأسواق الاستهلاك الكبرى، وتنشغل ببؤر نزاعٍ مزمنة. وفي مقدّمة هذه النزاعات يقف التصعيد الإسرائيلي المتواصل في قطاع غزة وسوريا، والتوتر الذي ينذر بانفجارٍ أوسع إذا ما قررت أطرافٌ أخرى الانخراط للدفاع عن مصالحها أو لكبح النفوذ الإسرائيلي. إنّ القلق الإقليمي والدولي من توسّع رقعة المواجهة العسكرية يظل حاضرًا، مما يزيد من حالة الارتياب لدى دوائر الاستثمار والتمويل التي تبحث عمومًا عن بيئات مستقرة. ومع توالي الأزمات الدولية التي عزّزتها تداعيات الجائحة ثم الحرب الروسية الأوكرانية، تتفاقم المخاوف من تحول حالة عدم اليقين الحالية إلى ركودٍ اقتصادي عميق أو أزمة ممتدة ذات تأثير قاس على الشعوب والحكومات.
في هذا المشهد الملبّد بالأزمات، يجد الأردن نفسه ضمن دائرةٍ إقليميةٍ تموج بالأحداث والتقلبات؛ فهو يرتبط تاريخيًا باتفاقيات تجارية مهمة مع الولايات المتحدة وأوروبا، كما يسعى جاهدًا إلى زيادة صادراته وجذب استثماراتٍ جديدةٍ تعينُه على تجاوز تحدياته الاقتصادية المزمنة، كارتفاع معدلات البطالة والدَّين العام. ومع ذلك، فإنّ التغيرات المفاجئة في السياسة التجارية الأمريكية – على غرار فرض رسومٍ جمركيةٍ شاملةٍ وغير منسّقة – قد تحدّ من قدرة المنتجات الأردنية على المنافسة في سوقٍ تعتمد عليها عمّان لتصريف جزءٍ مهمٍ من صادراتها، إضافةً إلى ذلك، قد يتأثر الأردن بديناميّات التوتر العالمي حين يتوجه المستثمرون نحو وجهاتٍ أكثر استقرارًا أو يفضّلون الترقب بدل المغامرة في بيئاتٍ قريبةٍ من مناطق النزاع. ورغم ما تتمتع به المملكة من استقرارٍ نسبي وسُمعةٍ سياسية متّزنة، فإنّ تحدياتها الداخلية الاقتصادية والاجتماعية تجعلها بحاجة ماسّة إلى شراكات دولية وإقليمية قوية ومطمئِنة.
يتضافر هذا الجانب مع بعدٍ آخر لا يقل أهميةً عن الاقتصاد، وهو البعد الأمني، فالتصعيد الإسرائيلي في سوريا وغزة خصوصاً يخلق موجاتٍ من الغموض ويعيد تسليط الضوء على قضايا المنطقة العالقة، خصوصًا القضية الفلسطينية. إذ يؤدي استمرار الحصار والهجمات إلى ارتفاع عدد الضحايا وتدمير البنية التحتية، ويضاعف معاناة السكان. ولا يتوقف الأثر عند الحدود الفلسطينية، بل ينعكس مباشرةً على الأردن في صورة متعددة تضيف مزيدًا من الضغط على صناع القرار في عمّان، وتجعل مسألة الأمن الحدودي وإدارة موجات اللجوء المحتملة محور انشغال دائم.
من جهةٍ أخرى، قد تُسهم الأزمة الاقتصادية العالمية المحتملة في خفض أسعار النفط بفضل تراجع الطلب، وهو ما يمكن أن يفيد الأردن بوصفه مستوردًا للطاقة، لكنه يضرُّ بدولٍ نفطية شريكة قد تتقلّص قدراتها الاستثمارية أو تنشغل بمعالجة مصاعبها المحلية بدل دعم اقتصادات الجوار. ومن الوارد أن تتخذ الصين ودولٌ آسيويةٌ أخرى إجراءاتٍ توسعية لتعزيز نفوذها في الأسواق الناشئة، بما فيها الشرق الأوسط، لتعويض خسائر الحرب التجارية مع الولايات المتحدة. وإذا أحسنت دول الإقليم – ومنها الأردن – انتهاز الفرص الناشئة في تلك الشراكات البديلة (سواءٌ على صعيد الاستثمار الصناعي أو تعزيز المبادرات التكنولوجية)، فقد تتمكن من تقليل الاعتماد المفرط على السوق الأمريكية والأوروبية، وضمان تنوّعٍ أكبر في وجهات صادراتها.
على ضوء ذلك، تبدو الصورة أكثر تعقيدًا، إذ إن التعويل على حلولٍ سريعةٍ أو انفراجات تامة غير منطقي في ظل التقاء الأزمات المالية والصراعات السياسية. ومع هذا، فإنّ الباب لم يُغلق أمام جهودٍ دبلوماسية دولية أو حوارات اقتصادية يمكن أن تخفف من حدّة هذه التوترات. وإذا تراخت القبضة الحمائية الأمريكية والصينية عبر اتفاقٍ تجاري ما، فإنّ وطأة المخاوف من الركود قد تتراجع قليلًا، ويسمح ذلك للاقتصادات الناشئة بالتقاط أنفاسها، ومن ضمنها الأردن. أما في المنطقة العربية، فقد بات ضروريًا تعزيز التعاون الاقتصادي الإقليمي وسعي الحكومات إلى بناء روافد جديدةٍ من التكامل، بحيث تزيد فرص جذب الاستثمارات وتوسيع الأسواق الداخلية وتعزيز الامن الغذائي والاعتماد على الذات، عوضًا عن الارتهان لعلاقات خارجية غير مستقرة بحكم التشابكات الدولية المعقدة.
لا ريب أنّ الشرق الأوسط يعيش تاريخيًا بين ثنايا الصراعات، وقد تكون المرحلة المقبلة محفوفةً بتقلبات أشدّ في حال استمرّ التصعيد الإسرائيلي وغابت أيّ جهود جديّة للتسوية. كما قد يجرّ التنافس بين القوى الكبرى مظلّة الأزمات السياسية نحو مساراتٍ أكثر وعورة. في المقابل، فإنّ الأردن يستطيع أن يظلّ محافظًا على موقعه الوسطي والدبلوماسي، ويستثمر استقراره النسبي لتعزيز قدراته الإنتاجية والسياحية والزراعية واللوجستية، وليقدّم نفسه منصةً آمنةً للشركات الراغبة في توسيع أعمالها داخل المنطقة. وحتى يتحقق ذلك، يحتاج المسؤولون الأردنيون إلى تكثيف إصلاحاتهم الاقتصادية، وتحسين بيئة الأعمال، وتقليل زمن الإجراءات البيروقراطية، فضلًا عن تدعيم البنية التحتية. وهي مهمّة ليست سهلة في مناخٍ دولي مُقلق، لكنها تبقى الخيار الأنجع لتأمين مستقبلٍ أكثر استقرارًا وازدهارًا يضمن للمملكة وللمنطقة تفادي الانزلاق نحو حالةٍ أشمل من الفوضى أو الركود الطويل الأمد.
التعليقات